فإن قيل : هذا التَّأويلُ لا يطابق قوله :﴿ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ].
والمراد منه قوله :﴿ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [ يوسف : ٤ ] قيل : معناه لأجلي، لطلب مصلحتي، وللسعي في إعلاء منصبي، وإذا احتمل هذا سقط السؤال.
الثاني : أن يقال : إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكراً لنعمته.
وهذا تأويلٌ حسنٌ، فإنه يقال : صليت للكعبة كما يقال : صليتُ إلى الكعبة؛ قال حسَّانُ رحمه الله :[ البسيط ]
٣١٥٣ ألَيْسَ أوَّل من صَلَّى لِقبْلتِكُمْ | وأعْرَفَ النَّاس بالآثَارِ والسُّنَنِ |
وقوله :﴿ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً ﴾ أي جعلوه كالقبلة ثمَّ سجدوا لله شكراً لنعمة وجدانه.
الثالث : التَّواضع يسمى سجوداًح كقوله :[ الطويل ]
٣١٥٤......................... | تَرَى الأكْمَ فِيهَا سُجَّداً للحَوَافِرِ |
وأجيب : بأنَّ الخرور يعني به المرور فقط، قال تعالى :﴿ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ﴾ [ الفرقان : ٧٣ ] يعنى : لم يمروا.
الرابع : أن يقال الضمير في قوله :﴿ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً ﴾ عائد إلى إخوته وإلى سائر من كان يدخل عليه لأجل التَّهنئةِ، والتقدير : ورفع أبويه على العرش مبالغة في تعظيمها، وأمَّا الإخوةُ وسائر الدَّاخلين، فخروا له ساجدين.
فإن قيل : هذا لا يلائم قوله :﴿ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ ﴾.
فالجواب : أن يعتبر الرُّيؤيا لا يجب أن يكون مطابقاً للرُّؤيا بحسب الصُّورةِ، والصِّفة من كُلِّ الوجوه، فسجودُ الكواكب والشَّمس والقمر معبر بتعظيم الأكابر من النَّاس ولا شك أنَّ ذهاب يعقوب من كنعان مع أولاده إلى مصر نهاية التعظيم له، فكفى هذا القدر من صَّحة الرُّؤيا، فأمَّا كون التَّعبير مساوياً في الصُّورةِ والصِّفة، فلم يوجبه أحد من العقلاءِ.
الخامس : لعلَّ الفعل الدَّال على التَّحية في ذلك الوقت، كان هو السُّجودُ وكان مقصودهم من السجود تعظيمه، ثمَّ نسخ ذلك في شرعنا.
وهذا بعيد؛ لأنَّ المبالغة في التَّعظيم كانت أليق بيوسف منها بيعقوب، فلو كان الأمر كما قلتم، لكان من الجواب أن يسجد يوسف ليعقوب ﷺ.
السادس : لعلَّ إخوته حملتهم الأنفة، والاستعلاءُ على ألاّ يسجدو له على سبيل التَّواضع، وعلم يعقوب أنهم إن لم يفعلوا ذلك لصار ذلك سبباً لثوران النَّفس، وظهور الأحقاد القديمة بعد كُمونِها، فيعقوب ﷺ مع جلالته وعظم قدره بسبب الأوبة والشَّيخوخة، والتَّقدُّم في الدِّين، والعلم، والنبوة فعل ذلك السُّجود حتَّى تصير مشاهدتهم لذلك سبباً لزوال تلك الأنفة، والنفرة عن قلوبهم.
السابع : لعلَّ الله تعالى أمر يعقوب بتلك السَّجدة لحكمة خفية لا يعلمها إلا هو [ كما أمر الملائكة بالسجود لآدم صلوات الله وسلامه عليه لحكمة لا يعلمها إلا هو ]، ويوسف ما كان راضياً بذلك في قلبه إلا أنَّه لما علم أنَّ الله أمره بذلك سكت.