و « مِنْ » في قوله :﴿ وَمِمَّا يُوقِدُونَ ﴾ تحتمل وجهين :
[ أحدهما ] : أن تكون لابتداء الغاية، أي : ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماءِ.
والثاني : أنَّها للتبعيض بمعنى : وبعض زبد، هذا مثل آخر.
فالأول : ضرب المثل بالزَّبد الحاصل من المثال، ووجه المماثلة : أنَّ كلاَّ منهما ناشىء من الأكدار.
وقرأ الأخوان، وحفص :« يُوقدُون » بالياء من تحت، أي : النَّاس، والباقون بالتاء من فوق على الخطاب، و « عَليْهِ » متعلق ب :« تُوقِدُونَ ».
وأمَّا « فِي النَّار » ففيه وجهان :
أحدهما : أنَّه متعلق ب « تُوقِدُونَ » وهو قول الفارسي، والحوفي، وأبي البقاء.
والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوف، أي : كائناً، أو ثابتاً، قاله مكيٌّ، وغيره ومنعوا تعلُّقه ب « يُوقِدُونَ » ؛ لأنهم زعموا أنَّه لا يوقد على الشَّيء إلا وهو في النَّار، وتعليق حرف الجر ب « تُقِدُونَ » يقتضي تخصيص حال من حال أخرى، وهذ غيرُ لازمٍ.
قال أبو علي رحمه الله تعالى : وقد يُوقَدُ على الشَّيء، وِإن لم يكن في النَّار، كقوله تعالى :﴿ فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين ﴾ [ القصص : ٢٨ ] فالطينُ لم يكن [ فيها ]، وإنَّما يصيبه لهبها، وأيضاً : فقد يكون ذلك على سبيل التَّوكيد، كقوله تعالى :﴿ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ]. والمراد بالحيلةِ : الذهب، والفضة، والمتاع : كل ما يتمتع به.
قوله :« ابْتِغاءَ حِليَةةٍ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مفعول من أجله.
والثاني : أنه مصدر في موضع الحالِ، أي : مبتغين حلية، و « حِليَةٍ » مفعولٌ [ في ] المعنى، « أوْ مَتاعٍ » نسق على « حِيلْيةٍ ».
فالحِليَةُ : ما تتزين به. والمتَاعُ : ما يقضون به حوائجهم كالمساحي من الحديد ونحوها.
قوله :« جُفَاءً » حالٌ، والجفاء : قال ابن الأنباري : المتفرق، يقال : جفأتِ الرِّح السَّحاب، أي : قطعته وفرقته، وقال الفراء : الجفاءُ : الرَّمي، والاطراحُ.
يقال : جَفَا الوادي، أي : غُثَاءه يجفوهُ : جفاءً، إذا رماه، والجفاء اسم للمجتمع منه [ المنضمّ ] بعضه إلى بعض، ويقال : جفَأتِ القِدرُ بزُبْدِهَا تَجْفَأ، وحفاءُ السَّيل : زبده، وأجْفَأ وأجْفَلَ وباللام قرأ رؤبة بن العجاج.
قال أبو حاتم : لا يقرأ بقراءة رؤبة؛ لأنَّه كان يأكل الفأر، يعني أنه أعرابي جاف وقد تقدم ثناء الزمخشري عليه أوَّل البقرة، وذكروا فصاحته، وقد وجَّهوا قراءته بأنها من أجفأت الرِّح الغيم، أي : فرقته قطعاً، فهي في المعنى كقراءة العامة بالهمزة.
وفي همزة « جَفَأ » وجهان :
أظهرهما : أنها أصل لثبوتها في تصاريف هذه المادة.
والثاني : أنه بدل من واو، وكأنه مختار أبي البقاء.
وفيه نظر؛ لأن مادة « جَفَا يَجْفُو » لا يليقُ معناها، والأصل : عدم الاشتراك.
فصل
المعنى : أنَّ الباقي الصَّافي من هذه الجواهر مثل الحق، والزَّبد الذي لا ينتفعُ به مثل الباطل، فأمَّا الزَّبد الذي علا السيل والفلز، فيذهب جفاء، أي : ضائعاً باطلاً، والجفاء، ما رمى به الوادي من الزَّبد، والقدر إلى جنباته.