والمعنى : أنَّ الباطل، وإن علا في وقت فإنه يضمحلُّ، ويبقى الحق ظاهراً لا يشوبه شيء من الشُّبهات.
قوله :﴿ كذلك يَضْرِبُ الله ﴾ الكاف في محل نصب، أي : مثل ذلك الضَّرب يضربُ.
قيل : إنَّما تمَّ الكلام عند قوله :﴿ كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال ﴾ ثم استأنف الكلام بقوله تعالى :﴿ لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى ﴾ وملحه الرفع بالابتداء، و « للذين » خبره، وتقديره : لهم الخصلة الحسنى، أو الحالة الحسنى.
وقيل : متصل بما قبله، والتقدير : كأنه الذي يبقى، وهو مثل المستجيب، والذي يذهب جفاء مثل الذي لا يستجيب، ثمَّ بين الوجه في كونه مثلاً، أي : لمن يستجيب « الحُسْنَى » وهي الجنَّة، ولمن لا يستجيب الحسرة والعقوبة.
وفيه وجه آخر : وهو أنَّ التقدير : كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الحسنى، أي : الاستجابة الحسنى.
واعلم أنه تعالى ذكر هاهنا أحوال السعداء، وأحوال الأشقياء، أما أحوال السعداء، فهي قوله جل ذكره :﴿ لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى ﴾، أي : أنَّ الذين أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد، والتزام الشرائع، فلهم الحسنى.
قال ابن عبَّاس :« الحُسْنَى » الجنَّة.
وأمَّا أحوال الأشقياء، فهي قوله عزَّ وجلَّ :﴿ والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ ﴾، أي لبذلوا ذلك يوم القيامة افتداءً من النار.
قوله :﴿ لِلَّذِينَ استجابوا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه متعلقٌ ب « يَضْرِبُ »، وبه بدأ الزمخشري قال :« أي : كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا؛ وللكافرين الذين لم يستجيبوا، و » الحُسْنَى « صفة لمصدر » اسْتَجَابُوا «، أي : استجابوا الاستجابة الحسنى، وقوله ﴿ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض ﴾ كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين ».
قال أ بو حيان :« والتفسير الأول أولى » يعني به أن « لِلَّذينَ » خبرٌ مقدمٌ و « الحُسْنَى » متبدأ مؤخَّر كما سيأتي.
إيضاحه قال :« لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين، والله تعالى قد ضرب أمثالاً كثيرة في هذهي وفي غيرهما؛ ولأنَّ فيه ذكر ثواب المتسجيبين بخلاف قول الزمخشري، فكما ذكر ما لغير المستجيبين من العقاب ذكر للمستجيبين من الثواب؛ ولأن تقديره : الاستجابة الحسنى مشعرٌ بتقييد الاستجابةِ وما قبلها ليس نفي الاستجابة مطلقاً، إنما مقابلها نفي الاستجابة الحسنى، والله سبحانه وتعالى قد
نفى الاستجابة مطلقاً، ولأنه على قوله يكون قوله :﴿ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ﴾ كلاماً مفلتا ممَّا قبله، أو كالمفلتِ، إذ يصير المعنى : كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين، والكافرين لو أنَّ لهم ما في الأرض، فلو كان التركيب بحذفِ رابط » لو « بما قبلها زال التفلت، وأيضاً : فتوهم الاشتراك في الضمير، وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوماً ».