قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ ﴾ الآية.
لمَّا ذكر خاتمة فرعون ذكر خاتمة بني إسرائيل، فقال :« ولقدْ بوَّأنا » أي : أسكنا بني إسرائيل « مُبَوَّأ صِدْقٍ » أي : مكاناً محموداً. ويجُوزُ أن يكون « مُبَوَّأ صِدْقٍ » منصوباً على المصدر، أي : بَوَّأناهم مُبَوَّأ صدقٍ، وأن يكون مكاناً أي : مكان تبوُّء صدقٍ. ويجوز أن ينتصب « مُبَوَّأ » على أنَّه مفعولٌ ثانٍ كقوله تعالى :﴿ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً ﴾ [ العنكبوت : ٥٨ ] أي : لنُنْزلنَّهُمْ. ووصف المُبَوَّأ بكون صدقاً؛ لأنَّ عادة العربِ أنها إذا مدحتْ شيئاً أضافته إلى الصِّدْقِ، تقولُ : رَجُلٌ صدقٌ، وقدم صدقٍ، قال تعالى :﴿ رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ﴾ [ الإسراء : ٨٠ ]. والمراد بالمبوَّأ الصدق : قيل :« مصر »، وقيل : الأردن وفلسطين وهي الأرض المقدسة ﴿ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات ﴾ الحلال « فَمَا اخْتَلَفُوا » يعنى اليهود الذين كانُوا في عَهْدِ النبي ﷺ في تصديقه وأنه نبيٌّ حقٌّ « حتَّى جاءَهمُ العِلْمُ » يعنى القرآن، والبيان بأنه رسول الله صدق ودينه حق، وسمى القرآن علماً؛ لأنه سببُ العِلْمِ، وتسمية المُسَبَّبِ باسم السبب مجاز مشهور.
قال ابنُ عباس : هم قريظة والنَّضير وبنو قينقاع أنزلناهم منزل صدق : ما بين المدينة، والشام ورزقناهم من الطيبات، وهو ما في تلك البلادِ من الرطب، والتمر الذي لا يوجد مثله في البلاد وقيل : المراد بني إسرائيل الذين نجوا من فرعون أورثهم الله جميع ما كان تحت أيدي قوم فرعون من الناطق، والصامت، والحرث، والنسل، كما قال :﴿ وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ].

فصل


في كون القرآن سبباً لحدوث الاختلاف وجهان :
الأول : أنَّ اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمدٍ - ﷺ - ويفتخرون به على سائر النَّاس، فلمَّا بعثه الله تعالى كذَّبوهُ حسداً، وبغياً وإيثارااً لبقاء الرِّياسة، وآمن به طائفةٌ منهم، فبهذا الطريق كان سبباً لحدوث الاختلاف فيهم.
الثاني : أنَّ هذه الطائفة من بني إسرائيل كانوا قبل نزول القرآن كفاراً محضاً بالكلِّيَّة، وبقوا على هذه الحالة حتَّى جاءهم القرآنُ، فعند ذلك اختلفوا فآمن قومٌ وبقي قومٌ كفاراً. ثم قال :﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ أي : أنَّ هذا الاختلاف لا يمكن إزالته في دار الدنيا، وإنَّما يقضى بينهم في الآخرة، فيتميز المحق من المبطل.
قوله :﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ ﴾ الآية.
قال الواحديُّ « الشَّك في اللغةِ، ضمَّ بعض الشَّيءِ إلى بعضٍ، يقال : شَكَكْتُ الصَّيْدَ إذا رميْتَه فنظمْتَ يدهُ إلى أو رجلهُ إلى رجله، والشِّكائِكُ من الهوادج ما شُكَّ بعضها ببعضٍ والشِّكاكُ : البُيوتُ المُصطفَّة، والشَّكائِكُ : الأدْعياءُ؛ لأنَّهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم، أي : يضُمُّون، وشكَّ الرَّجُلُ في السِّلاحِ، إذا دخل فيه وضمَّهُ إلى نفسه.


الصفحة التالية
Icon