[ النور : ٣٥ ] عطف بيان أيضاً.
واستدلّ من جوَّز كونه عطف بيان، ومتبوعه نكرتين بهاتين الآيتين.
والصَّديد : ما يسيلُ من أجسادٍ أهلِ النَّار. وقيل : ما حَالَ بين الجلدِ واللَّحمِ من القَيْحِ.
قوله :« يتَجرَّعهُ » يجوز أن تكون الجملة صفة ل « مَاءٍ » وأن تكمون حالاً من الضمير في « يُسْقَى »، وأن تكمون مستأنفة، وتجرَّع :« تَفعَّل » وفيه احتمالات :
أحدها : أنه مطاو ل « جَرَّعْته » نحو « علَّمتهُ فتعلَّمَ ».
والثاني : أنه يكون للتكلف، نحو « تحَلَّم »، أي : يتَكلَّف جرعهُ، ولم يذكر الزمخشري غيره.
الثالث : أنه دالٌّ على المهلة، نحو تفهَّمتهُ، أي : يتنوله شيئاً فشيئاً بالجرع كما يفهم شيئاً فشيئاً بالتفهيم.
الرابع : أنه بمعنى جرع المجرد، نحو : عَددْتُ الشيء وتعَدَّيتُه.
والمعنى : يتحسَّاه ويشربه لا بمرة واحدة، بل يجرعهُ لِمرارَتهِ وحَرارَتهِ.
قوله :﴿ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ ﴾ في « يَكادُ » قولان :
أحدهما : أن نفيهُ إثبات، وإثباتهُ نفيٌ، فقوله :﴿ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ ﴾ أي : يسيغه بعد إبطاء؛ لأن العرب تقول : ما كدت أقومُ أي : قمتُ بعد إبطاءٍ، قال تعالى :﴿ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ [ البقرة : ٧١ ] أي : فعلوا بعد إبطاء، ويدلّ على حصول الإساغة قوله :﴿ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ ﴾ [ الحج : ٢٠ ] ولا يحصل الصهر إلا بعد الإساغة. وقوله :« يَتجرَّعهُ » يدل على أنهم ساغوا الشيء بعد الشيء.
والقول الثاني : أنَّ « كَادَ » للمقاربة، فقوله « وَلا يَكادُ » لنفي المقاربة يعني ولم يقارب أن يسيغه، فكيف تحصل إلا ساغة؟.
كقوله تعالى :﴿ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾ [ النور : ٤٠ ]، أي : لم يقرب من رؤياها، فكيف يراها؟.
فإن قيل : فقد ذكرتم الدليل على الإساغة، فكيف يجمع بين القولين؟.
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنَّ المعنى : ولا يسيغ جميعه.
والثاني : أنَّ الدَّليل الذي ذكرتم إنَّما دلَّ على وصول بعض ذلك الشَّراب إلى جوف الكافر، إلاَّ أن ذلك ليس بإساغة؛ لأنَّ الإساغة في اللغة : إجراء الشرب في [ الحلق ] بقبول النفس، واستطابة المشروب، والكافر يتجرّع ذلك الشرب على كراهية ولا يسيغه، أي : لا يستطيبه ولا يشربه شرباً مرة واحدة وعلى هذين الوجهين يصح حمل :« لا يَكَادُ » على نفي المقاربة.
قوله :﴿ وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ﴾ أي : أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات.
واعلم أن الموت يقع على أنواع بحسب أنواعه الحياة.
فمنهنا : ماهو بإزاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات، كقوله تعالى :﴿ يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ [ الحديد : ١٧ ].
ومنها : زوال القوة العاقلة، وهي الجهالة، كقوله تعالى :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٢ ] ﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى ﴾ [ النمل : ٨٠ ].
ومنها : الحزن والخوف المكدران للحياة، كقوله تعالى :﴿ وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ﴾ [ إبراهيم : ١٧ ].
ومنهنا : النوم، كمقوله تعالى عزَّ وجلَّ ﴿ والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ﴾ [ الزمر : ٤٢ ].