﴿ فَضَرْبَ الرقاب ﴾ [ محمد : ٤ ].
قوله :﴿ ثُمَّ توبوا ﴾ عطفٌ على ما قبله من الأمْرِ بالاستغفار، و « ثُمَّ » على بابها من التَّراخي؛ لأنَّه يستغفرُ أولاً ثم يتوبُ ويتجرَّدُ من ذلك الذَّنب المُستغْفَرِ منهُ.
قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى « ثُمَّ » في قوله ﴿ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ ﴾ ؟ قلت : معناه : استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطَّاعة، أو استغفروا - والاستغفارُ توبةٌ - ثُمَّ أخْلِصُوا التَّوبة واستقيموا عليها، كقوله :﴿ ثُمَّ استقاموا ﴾ [ الأحقاف : ١٣ ].
قال شهابُ الدِّين : قوله :« أو استغفروا » إلى آخره يعني أنَّ بعضهم جعل الاستغفار والتوبة بمعنى واحد، فلذلك احتاج إلى تأويل « تُوبُوا » ب « أخْلِصُوا التَّوبة ».
قال الفراء :« ثُمَّ » ههنا بمعنى الواو، أي : وتوبوا إليه، لأنَّ الاستغفار هو التوبة والتوبة هي الاستغفار.
وقيل : وأن استغفروا ربَّكُم في الماضي، ثُمَّ تُوبُوا إليه في المستأنف.
وقيل : إنَّما قدَّم الاستغفار أوَّلاً لأنَّ المغفرة هي الغرض المطلوب، والتوبة هي السبب إليها، فالمغفرة أول في المطلوب وآخر في السبب.
ويحتمل أن يكون المعنى استغفروهُ من الصَّغائر، ثُمَّ تُوبُوا إليه من الكبائر.
قوله :« يُمَتِّعكُم » جوابُ الأمرِ. وقد تقدَّم الخلافُ في الجازمِ : هل هو نفسُ الجملةِ الطَّلبية أو حرفُ شرطٍ مقدر [ البقرة : ٤٠ ].
وقرأ الحسنُ وابنُ هرمز وزيد بنُ عليٍّ وابن محيصن « يُمْتِعُكُم » بالتخفيف من أمتع.
وقد تقدَّم أنَّ نافعاً وابن عامرٍ قرآ ﴿ فأُمْتِعُهُ قَلِيلاً ﴾ بالتخفيف كهذه القراءة [ البقرة : ١٢٦ ].
قوله « متَاعاً » في نصبه وجهان :
أحدهما : أنَّه منصوبٌ على المصدر بحذفِ الزَّوائدِ، إذ التقديرُ : تَمْتِيعاً، فهو كقوله :﴿ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً ﴾ [ نوح : ١٧ ].
والثاني : أن ينصب على المفعول به، والمراد بالمتاع اسم ما يُتمتَّعُ به، فهو كقولك :« متعت زيداً أثواباً ».
قال المفسِّرون : يعيشكم عيشاً في خفضٍ ودعةٍ وأمنٍ وسعةٍ « إلى أجلٍ مُسَمًّى » إلى حين الموتِ. فإن قيل : أليس أنَّ النبيَّ ﷺ قال :« الدُّنيا سِجْنُ المُؤمنِ وجنَّةُ الكافر »
؟. وقال أيضاً :« خُصَّ البَلاءُ بالأنبياءِ ثُمَّ الأوْلياءِ فالأمْثَلِ فالأمْثَلِ ».
وقال تعالى :﴿ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴾ [ الزخرف : ٣٣ ] فدلَّت هذه النُّصوصُ على أنَّ نصيب المؤمن المطيع عدمُ الرَّاحة في الدُّنيا، فكيف الجمع بينهما؟.
فالجواب من وجوه :
الأول : أنَّ المعنى لا يُعذِّبهم بعذاب الاستئصال كما استأصَلَ أهلَ القوَّة من الكُفَّار.
الثاني : أنَّهُ تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان، وإليه الإشارةُ بقوله :﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ﴾


الصفحة التالية
Icon