[ طه : ١٣٢ ].
الثالث : أنَّ المشتغل بالعبادة مشتغلٌ بحب شيءٍ يمتنع تغيره وزواله وفناؤه، وكلما كان تمكنه في هذا الطريق أتم كان انقطاعه عن الخلقِ أتمُّ وأكملُ، وكلما كان الكمالُ في هذا البابِ أكثر كان الابتهاج والسرور أكمل؛ لأنَّهُ أَمِنَ من تغير مطلوبه، وأَمِنَ من زوال محبوبه.
وأمَّا من اشتغل بحبِّ غير الله، كان أبداً في ألمِ الخوفِ من فوات المحبوب وزواله؛ فكان عيشهُ منغَّصاً وقلبه مضطرباً، ولذلك قال تعالى في حق المشتغلين بخدمته ﴿ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [ النحل : ٩٧ ].
فإن قيل : هل يدل قوله ﴿ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ على أنَّ للعبدِ أجليْنِ، وأنَّهُ يقع في ذلك التقديم والتَّأخير؟.
فالجواب : لا، ومعنى الآية أنَّهُ تعالى حكم بأنَّ هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت الفلاني، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر، لكنَّهُ تعالى عالم بأنَّهُ يشتغل بالعبادة، فلا جرم أنَّه كان عالماً بأنَّ أجله ليس إلاَّ في ذلك الوقتِ المعيَّنِ؛ فثبت أنَّ لكلَّ إنسانٍ أجلاً واحداً.
وسمى منافع الدُّنيا متاعاً، تنبيهاً على حقارتهَا وقلَّتهَا، وأنَّها مُنقضيةٌ بقوله تعالى ﴿ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾.
قوله :﴿ وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ﴾ « كُلَّ » مفعول أوَّل، و « فَضلهُ » مفعولٌ ثانٍ.
وقد تقدَّم للسُّهيلي خلافٌ في ذلك. والضَّمير في « فَضْلَهُ » يجوز أن يعود على الله تعالى، أي : يُؤتِي كُلَّ صاحبِ فضلٍ فضله، أي : ثوابهُ، وأن يعود على لفظِ « كُلّ »، أي : يعطي كُلَّ صاحب فضلٍ جزاء فضله، لا يبخَسُ منه شيئاً، أي : جزاء عمله.
قال المفسِّرون : ويعطي كل ذي عمل صالح في الدنيا أجره وثوابه في الآخرة.
وقال أبو العالية : من كثرت طاعته في الدنيا زادت درجاته في الجنَّة؛ لأنَّ الدَّرجاتِ تكون بالأعمال.
وقال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - :« مَنْ زادَتْ حسناتهُ على سيِّئاتهِ دخل الجنَّة، ومن زادت سيئاته على حسناته، دخل النَّارن ومن استوت حسناته وسيئاته، كان من أهْلِ الأعرافِ، ثم يدخلون الجنة ».
ثم قال :﴿ وَإِن تَوَلَّوْاْ فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾ وهو يومُ القيامةِ.
وقرأ الجمهور « تَولَّوْا » بفتح التَّاءِ والواو واللاَّم المشدَّدة، وفيها احتمالان :
أحدهما : أنَّ الفعل مضارعُ توَلَّى وحذف منه إحدى التاءين تخفيفاً نحو :« تَنَزَّلُ ».
وقد تقدَّم أيتهما المحذوفةُ، وهذا هو الظَّاهر. ولذلك جاء الخطابُ في قوله :« عليْكُم ».
والثاني : أنَّه فعلُ ماضٍ مسند لضمير الغائبين، وجاء الخطابُ على إضمار القولِ، أي : فقل لهم : إنِّي أخاف عليكم، ولولا ذلك لكان التركيب : فإنِّي أخاف عليهم.
وقرأ اليماني وعيسى بن عمر :« تُوَلُّوا » بضمِّ التَّاءِ، وفتح الواوِ وضم اللام، وهو مضارعُ « ولَّى » ؛ كقولك : زكَّى يزكِّي.


الصفحة التالية
Icon