قوله تعالى :﴿ الذين آمَنُواْ ﴾ في محلِّه أوجهٌ :
أحدها : أنَّه مرفوعٌ خبر مبتدأ مضمر، أي : هم الذي آمنوا، أو خبر ثان ل « إنَّ » ن أو مبتدأ، والخبر الجملةُ منق وله :﴿ لَهُمُ البشرى ﴾، أو على النَّعْت على موضع « أوْليَاء » لأنَّ موضعه رفعٌ بالابتداء قبل دخول « إنَّ »، أو بدل من الموضع أيضاً، ذكرهما مكِّي، وهذان الوجهان على مذهب الكوفيين؛ لأنَّهم يجرُون التَّوابع كلَّها مجرى عطف النَّسق في اعتبار المحلِّ.
وقيل : محله الجرُّ بدلاً من الهاءِ، والميم في « عليهم ».
وقيل : منصوبُ المحلِّ نعتاً ل « أولياء »، أو بدلاً منهم على اللفظِ، أو على إضمار فعلٍ لائقٍ وهو « أمدحُ »، فقد تحصَّل فيه تسعةُ أوجهٍ : الرفعُ من خمسة، والجرُّ من وجه واحد، والنَّصبُ من ثلاثة، وإذا لم تجعل الجملة من قوله :« لهُمُ البُشْرَى » خبراً ل « الَّذين » جاز فيها الاستئنافُ، وأن تكون خبراً ثانياً ل « إنَّ » أو ثالثاً.
قوله :﴿ لَهُمُ البشرى ﴾ روى عبادة بن الصَّامت، قال : سألتُ رسول الله ﷺ عن قوله - تعالى - :﴿ لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة ﴾ قال : هي الرُّؤيا الصَّالحةُ، يراها المسلمُ أو تُرى لهُ. وقال - ﷺ - :« الرُّؤيا الصَّالحة جزءٌ من ستَّةٍ وأربعين جزءاً من النُّبوَّةِ. »
وقيل : البُشْرَى في الدُّنيا هي : الثَّناءُ الحسن، وفي الآخرة : الجنَّة؛ لما روى أبو ذرٍّ، قال : قلت يا رسُول الله : الرَّجل يعمل لنفسه، ويحبُّه الناس، قال : تلك عاجلُ بُشْرَى المؤمِن. وقال الزهريُّ، وقتادة : هي نزول الملائكة بالبشارة من الله - تعالى عند الموت، قال - تعالى - :﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة ﴾ [ فصلت : ٣٠ ]. وروى عطاء نحوه، عن ابن عباسٍ.
وقال الحسن : هي ما بشَّر الله المؤمنين في كتابه من جنَّته، وكريم ثوابه، كقوله :﴿ وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ ﴾ [ البقرة : ٢٥ ] ﴿ وَبَشِّرِ المؤمنين ﴾ [ البقرة : ٢٢٣ ] ﴿ وَأَبْشِرُواْ بالجنة ﴾ [ فصلت : ٣٠ ].
وقيل : بشَّرهم في الدُّنيا بالكتاب والرسُول أنهم أولياء الله، وبشَّرهم في القبور، وفي كتب أعمالهم بالجنَّة.
قوله :﴿ فِي الحياة الدنيا ﴾ : يجوز فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّه متعلقٌ بالبشرى، أي : البشرى تقع في الدُّنيا، كما فُسِّرت بالرُّؤيا الصَّالحة.
والثاني : أنَّها حالٌ من « البُشْرَى » فتتعلق بمحذوف، والعاملُ في الحال الاستقرارُ في « لهم » لوقوعه خبراً.
قوله :« لا تبْديلَ » جملةٌ مستأنفةٌ، أي : لا تغيير لقوله، ولا خلف لوعده.
وقوله :« ذَلِكَ » إشارةٌ للبُشْرَى، وإن كانت مؤنَّثةً؛ لأنَّها في معنى التَّبشير، وقال ابن عطيَّة : إشارةٌ إلى النَّعيم، وقال الزمخشري :« ذَلِكَ إشارةٌ إلى كونهم مُبشِّرين في الدَّارين ».
قوله :﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ﴾ وههنا تمَّ الكلام، واعلم أنَّ الله لمَّا حكى عن الكُفار شبهاتهم المتقدمة، وأجاب عنها عدلُوا إلى طريقٍ آخر، وهو أنَّهُم هدَّدُوه، وخوَّفُوه بأنهم أصحاب أموالٍ وأتباع؛ فنسعى في قهرك، وفي إبطالِ أمرك، فأجاب - تعالى - عن هذا الطريق بقوله :﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ﴾.


الصفحة التالية
Icon