أمَّا في الدنيا ففي قوله ﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾.
وأمَّا في الآخرة ففي قوله - تعالى - ﴿ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ﴾ [ القلم : ٤٢ ].
ثم قال تعالى :﴿ أولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ ﴾ أي : أنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله، فكان هذا الخسران أعظم وجوه الخسران.
﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ يزعمون من شفاعة الملائكة والأصنام.
قوله :« لا جَرَمَ » في هذه اللفظةِ خلافٌ بين النحويين، ويتلخصُ ذلك في خمسة أوجهٍ :
أحدها - وهو مذهبُ الخليل وسيبويه وجماهير النَّاس - أنََهُما رُكِّبتا من « لا » النَّافية و « جَرَم » وبُنيتَا على تركيبها تركيب خمسة عشر، وصار معناهما معنى فعل وهو « حقَّ » فعلى هذا يرتفعُ ما بعدهما بالفاعليَّة، فقوله - تعالى - :﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار ﴾ [ النحل : ٦٢ ] أي : حق وثبت كون النَّار لهم، أو استقرارها لهم.
الوجه الثاني : أنَّ « لا جَرَمَ » بمنزلة « لا رجُل » في كون « لا » نافية للجنس، و « جَرَمَ » اسمها مبنيٌّ معها على الفتح، وهي واسمها في محلِّ رفعٍ بالابتداء، وما بعدها خبر « لا » النافية، وصار معناها : لا محالة ولا بُدَّ، قاله الفرَّاءُ.
الثالث :- كالذي قبله - إلاَّ أنَّ « أنَّ » وما بعدها في محلِّ نصبٍ، أو جرٍّ بعد حذف الجار، إذ التقدير : لا محالةَ أنَّهُم في الآخرة، أي : في خسرانهم.
الرابع : أنَّ « لا » نافيةٌ لكلام متقدم تكلَّم به الكفرةُ، فردَّ الله ذلك عليهم بقوله :« لا » كما تُرَدُّ « لا » هذه قبل القسم في قوله - عزَّ وجلَّ - ﴿ لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد ﴾ [ البلد : ١ ] وقوله تعالى :﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ النساء : ٦٥ ] وقد تقدَّم تحقيقه، ثم أتى بعدها بجملة فعلية، وهي « جرم أنَّ لهُم كَذَا »، و « جرم » فعل ماضٍ معناه « كسب »، وفاعله مستتر يعودُ على فعلهم المدلول عليه بسياق الكلام، و « أنَّ » وما في حيِّزها في موضع المفعول به، لأنَّ « جَرَمَ » يتعدَّى إذْ هو بمعنى « كَسَبَ » ؛ قال الشاعر :[ الوافر ]

٢٩٥٤- نَصَبْنَا رَأْسَهُ فِي جِذْعِ نَخْلٍ بِمَا جَرَمَتْ يَدَاهُ ومَا اعْتَدَيْنَا
أي : بما كسبتْ يداهُ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في المائدة [ ٦ ] وجريمةُ القوم كاسبهم؛ قال :[ الوافر ]
٢٩٥٥- جَرِيمةُ نَاهِضٍ فِي رَأسِ نيقٍ تَرَى لِعظَامِ ما جَمَعَتْ صَلِيبا
فتقدير الآية : كَسَبَهُم - فعلهم أو قولهم - خسرانهم، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج، وعلى هذا فالوقفُ على قوله « لا » ثم يبتدأ ب « جَرَمَ » بخلاف ما تقدَّم.
الوجه الخامس : أن معناها لا صدَّ ولا منع، وتكون « جَرَمَ » بمعنى « القطع » تقول : جرمتُ أي : قطعت، فيكون « جَرَمَ » اسمَ « لا » مبنياً معها على الفتح؛ كما تقدَّم، وخبرها « أنَّ وما في حيِّزها، أو على حذف حرف الجر، أي : لا منع من خسرانهم؛ فيعودُ الخلافُ المشهور وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ : فيقال : لا جِرمَ بكسر الجمي، ولا جُرم بضمها، ولا جَرَ بحذف الميم، ولا ذا جرم، ولا إنَّ ذا جرم، ولا عن ذا جرم، ولا أنْ جرم، ولا ذُو جرم، ولا ذا جر والله لا أفعل ذلك.


الصفحة التالية
Icon