والثاني - من الأوجه الثلاثة - : أن يكون منصوباً ب « اتَّبَعَكَ »، أي : ما نَرَاكَ اتَّبعَكَ أول رأيهم، أو ظاهر رأيهم، وهذا يحتمل معنيين :
أحدهما : أن يريدوا اتبعوك في ظاهر أمرهم، وبواطنهم ليست معك.
والثاني : أنَّهُم اتَّبعُوكَ بأول نظرٍ، وبالرَّأي البَادِي دُونَ تَثَبُّت، ولو تثبتُوا لما اتَّبَعُوك.
الثالث - من الأوجه الثلاثة - أنَّ العامل فيه « أرَاذِلُنَا » والمعنى : أراذِلُنَا بأولِ نظرٍ منهم أو بظاهر الرَّأي نعلم ذلك، أي : إنَّ رزالتهم مكشوفةٌ ظاهرةٌ لكونهم أصحاب حرفٍ دنيَّة.
والرَّأي على هذا من رأي العين لا من رأي القلب، ويتأكَّدُ هذا بما نُقل عن مجاهد أنَّهُ قرأ « إلاَّ الذينَ هُمْ أرَاذِلُنَا بادِيَ رَأي العَيْنِ ».
ثم القائل بكون « بَادِيَ » ظرفاً يحتاج إلى اعتذار، فإنَّهُ اسمُ فاعلٍ وليس بظرفٍ في الأصلِ، قال مكيّ : وإنَّما جاز أن يكون فاعل ظرفاً كما جاز ذلك في « فَعِيل » نحو : قَرِيب ومليء، و « فاعل وفعيل » متعاقبان ك : رَاحِم ورَحِيم، وعَالِم وعَلِيم، وحسُن ذلك في « فَاعِل » لإضافته إلى الرأي، والرأي يضاف إليه المصدر، وينتصبُ المصدرُ معه على الظَّرْفِ نحو :« أمَّا جَهْدُ رأي فإنَّك منطلقٌ » أي :« في جَهْد ».
قال الزمخشريُّ : وانتصابه على الظَّرف، أصله : وقْتَ حُدُوثِ أوَّلِ أمرهم، أو وقتَ حدوثِ ظاهرِ رأيهم، فحذفَ ذلك وأقم المضافُ إليه مقامه.
الوجه الثاني - من السَّبعة - : أن لا ينتصب على المفعول به، حذف معه حرفُ الجر مثل :﴿ واختار موسى قَوْمَهُ ﴾ [ الأعراف : ١٥٥ ].
وفيه نظرٌ من حيث إنَّه ليس هنا فعلٌ صالحٌ للتعدِّي إلى اثنين، إلى ثانيهما بإسقاط الخافضِ.
الثالث من السَّبعة : أن ينتصب على المصدر ومجيء المصدر على فاعل أيضاً ليس بالقياس، والعامل في هذا المصدر كالعامل في الظَّرف كما تقدَّم، ويكون من باب ما جاء فيه المصدرُ من معنى الفعل لا من لفظه، تقديره : رُؤية بدءٍ : أو ظهور، أو اتباع بدءٍ أو ظهور، أو رذالة بدءٍ.
الرابع من السبعة : أن يكون نعتاً ل « بَشَر »، أي : ما نَراكَ إلاَّ بشراً مثلنا بادِيَ الرأي، أي : ظاهرهُ، أو مبتدئاً فيه. وفيه بعدٌ للفصل بين النَّعْتِ والمَنْعُوتِ بالجملة المعطوفة.
الخامس : أنَّهُ حالٌ من مفعول « اتَّبَعَكَ »، أي : وأنت مكشوفُ الرَّأي ظاهرهُ لا قُوةَ فيه، ولا حصانة لك.
السادس : أنه منادى والمراد به نوحٌ - ﷺ -، كأنَّهُم قالوا : يا بَادِي الرَّأي، أي : ما في نفسك ظاهرٌ لكلِّ أحدٍ، قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء به، والاستقلال له.


الصفحة التالية
Icon