فصل


قوله :﴿ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا ﴾ كالدَّليل على أنَّ القوم سألوه لئلاَّ يشاركوا الفقراءَ، فقال ﷺ :« ومَا أنَا بطارِدِ الذين آمنُوا »، وأيضاً قولهم ﴿ وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا ﴾ كالدَّليل على أنَّهم طلبوا منه طردهم؛ فكأنَّهم يقولون لو اتَّبَعَك الأشراف لوافقناهم.
ثمَّ ذكر ما يوجب الامتناع من طردهم، وهو أنَّهم ملاقُو ربِّهم، وهذا الكلامُ يحتملُ وجوهاً :
منها : أنَّهُم قالوا إنَّهم منافقون فيما أظهروا فلا تغترَّ بهم؛ فأجاب بأنَّ هذا الأمر ينكشفُ عند لقاءِ ربِّهم في الآخرة.
ومنها : أنَّهُ جعله علَّة في الامتناع من الطَّرْدِ، وأراد أنهم ملاقو ربِّهم ما وعدهم، فإن طردتهم استخصموني في الآخرة.
ومنها : أنَّهُ نَبَّه بذلك على أنَّا نجتمع في الآخرة؛ فأعاقب على طردهم فلا أجد من ينصرني.
ثم بيَّن أنَّهم يَبْنُون أمرهُم على الجَهْلِ بالعواقب والاغترارِ بالظَّواهرِ فقال :﴿ ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ﴾.
ثم قال :﴿ وياقوم مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ ﴾ [ هود : ٣٠ ] من يمنعني من عذاب الله ﴿ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ تتَّعِظُونَ.
والمعنى : على أنَّ العقل والشرع تطابقا على تعظيم المؤمن التَّقي، وإهانةِ الفَاجرِ، فلو عظَّمْتُ الكافر وطردتُ المؤمن وأهنتهُ كنت على ضِدّ دين الله؛ فأسْتوْجبُ حينئذٍ العقابَ العظيمَ، فمن الذي ينصُرُني من الله، ومن الذي يُخَلِّصُني من عذابِ الله.
واحتجَّ قوم بهذه الآية على صُدُورِ الذَّنب من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فقالوا دلَّت الآيةُ على أنَّ طردَ المؤمنين لطلب مرضاة الكفار معصية، ثم إن محمداً - صلوات الله وسلامه عليه - طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار حتى عاتبه الله - عزَّ وجلَّ - في قوله :﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي ﴾ [ الأنعام : ٥٢ ].
زالجوابُ : يحمل الطَّرد المذكور في هذه الآية على الطَّرد المطلق المؤبَّدِ، والطَّرد المذكور في واقعة محمدٍ - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - على المُقيَّدِ في أوقاتٍ معينةٍ رعاية للمصلحة.
ثُمَّ أكَّدَ هذا البيان فقال :﴿ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله ﴾ فآتي منها ما تطلبون، ﴿ وَلاَ أَعْلَمُ الغيب ﴾ فأخبركم بما تُريدُونَ.
وقيل : إنَّهم لمَّا قالوا لنوح : إنَّ الذين آمنُوا بك إنَّما اتَّبَعُوكَ في ظاهر ما ترى منهم، فأجابهم نوح - ﷺ - فقال : لا أقول لكم : عِنْدِي خزائن غيوب الله التي يعلم منها ما يضمره الناس، ولا أعلم علم الغيب فأعلم ما يسرونه في نفوسهم، فسبيلي قبول ما ظهر من إيمانهم، ﴿ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ﴾ هذا جواب لقولهم :﴿ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا ﴾ [ هود : ٢٧ ] وقيل معناه : لا أقولُ إنِّي ملكٌ حتَّى أتعظَّمَ بذلك عليكم، بل طريقي الخضوع والتَّواضع، ومن كان طريقه كذلك فإنَّهُ لا يستنكفُ عن مخالطةِ الفقراءِ والمساكين.


الصفحة التالية
Icon