وإن الله تعالى لما رأى الذي وقع فيه داود عليه السلام أراد أن ينفذ أمره، فبينما داود عليه السلام ذات يوم في محرابه، إذ تسور عليه الملكان من قبل وجهه، فلما رآهما وهو يقرأ، فزع وسكت وقال : لقد استضعفت في ملكي، حتى أن الناس يتسوّرون على محرابي فقالا له ﴿ لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض ﴾ ولم يكن لنا بد من أن نأتيك، فاسمع منا فقال أحدهما ﴿ إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها ﴾ يريد أن يتم مائة، ويتركني ليس لي شيء ﴿ وعزني في الخطاب ﴾ قال : إن دعوت ودعا كان أكثر مني، وإن بطشت وبطش كان أشد مني. فذلك قوله ﴿ وعزني في الخطاب ﴾ قال له داود عليه السلام : أنت كنت أحوج إلى نعجتك منه ﴿ لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ﴾ إلى قوله ﴿ وقليل ما هم ﴾ ونسي نفسه ﷺ، فنظر الملكان أحدهما إلى الآخر حين قال، فتبسم أحدهما إلى الآخر، فراه داود عليه السلام، فظن إنما فتن ﴿ فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب ﴾ أربعين ليلة حتى نبتت الخضرة من دموع عينيه، ثم شدد الله ملكه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الحسن رضي الله عنه أن داود عليه السلام جزأ الدهر أربعة أجزاء : يوماً لنسائه، ويوماً للعبادة، ويوماً للقضاء بين بني إسرائيل، ويوماً لبني إسرائيل. ذكروا فقالوا : هل يأتي على الإِنسان يوم لا يصيب فيه ذنباً؟ فاضمر داود عليه السلام في نفسه أنه سيطيق ذلك، فلما كان في يوم عبادته غلق أبوابه، وأمر أن لا يدخل عليه أحد، وأكب على التوراة.
فبينما هو يقرأها إذ حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن قد وقعت بين يديه، فاهوى إليها ليأخذها، فطارت فوقعت غير بعيد من غير مرتبتها، فما زال يتبعها حتى أشرف على امرأة تغتسل، فاعجبه حسنها وخلقها، فلما رأت ظله في الأرض جللت نفسها بشعرها، فزاد ذلك أيضاً بها اعجاباً، وكان قد بعث زوجها على بعض بعوثه، فكتب إليه أن يسير إلى مكان كذا وكذا... مكان إذا سار إليه قتل ولم يرجع، ففعل، فاصيب، فخطبها داود عليه السلام، فتزوجها.
فبينما هو في المحراب، إذ تسور الملكان عليه، وكان الخصمان إنما يأتونه من باب المحراب، ففزع منهم حين تسوّروا المحراب فقالوا :﴿ لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط ﴾ أي لا تمل ﴿ واهدنا إلى سواء الصراط ﴾ أي أعدله، وخيره ﴿ إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة ﴾ يعني تسعاً وتسعين امرأة لداود، وللرجل نعجة واحدة فقال ﴿ أكفلْنيها وعزني في الخطاب ﴾ أي قهرني وظلمني ﴿ قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب ﴾ قال : سجد أربعين ليلة حتى أوحى الله إليه : أني قد غفرت لك.


الصفحة التالية
Icon