في المجلس كلام كثير، وقال الملك على إثره لقاضي القضاة: ألم أقل لك: إن مذهبا طبق الارض لابد له من ناصر.
ولما انقضى المجلس صحبني بعض الحجاب إلى منزل هيئ لى فيه جميع ما أحتاج إليه، فسكنته.
ولما خرج الباقلانى قال الملك لقاضيه: فكرت بأى قتلة أقتله لجلوسه حيث جلس بغير أمرى، وأما الآن فقد علمت أنه أحق بمكانى منى.
ثم دفع ابنه صمصام الدولة، ليعلمه مذهب أهل السنة، فعلمه وألف له كتاب " التمهيد " ولم يزل الباقلانى مع عضد الدولة، إلى أن أقدم بغداد.
وكان دخوله أياها في
سنة ٣٦٧، وظل الباقلانى أثيرا لديه، حتى إنه جعله رئيس البعثة التى أوفدها في سنة ٣٧١ إلى ملك الروم.
وقد قال الاستاذ " محمود محمد الخضيرى " والدكتور " محمد عبد الهادى أبو ريدة " في مقدمتهما لكتاب التمهيد: " إن هذه المناظرة جرت في مجلس الامبراطور باسيليوس الثاني، الذى حكم من سنة ٣٦٥ إلى سنة ٤١٦ هـ ".
ثم قالا: " ومهما يكن أمر سفارة الباقلانى بين عضد الدولة وبين ملك الروم، فنحن لا نعرف ظروفها التاريخية، وربما كان ملك الروم قد أراد من يبين له أمر الاسلام، أو يجيب عن أسئلة النصارى بشأن ما يعتقده المسلمون.
ويتبين من تفصيل المناقشات أن مهمة الباقلانى كانت مدنية علمية، هي أشبة ببعثة تبادل الآراء ومعرفة وجهات النظر الدينية، ولا سيما أنه ليس عندنا في التاريخ ما يدل على اتصال وثيق بين عضد الدولة وبين الروم من شأنه أن يكون داعيا لبعثات سياسية أو حربية أو أشبه ذلك، وأن المؤرخين يشيرون إلى هذه السفارة باختصار، أو هم يذكرون ما يدل على صبغتها الفكرية الدينية الخالصة.
على أنه من الجائز أن يكون ظهور شأن السلطان الفاتح عضد الدولة، بعد حروب دامت طويلا بين البيزنطيين والمسلمين وبعد تمرد أحد قواد الروم على الامبراطور في الشرق، كان مما دعا الامبراطور البيزنطى إلى عقد صلات التعارف مع عضد الدولة " ثم قالا: " إن الغرض الذى رمى إليه عضد الدولة من بعثة الباقلانى إلى بيزنطة هو إرضاء شعور
فلن يجوز - والحال هذه - أن يتغافلوا عن معارضته لو كانوا قادرين عليها تحداهم أو لم يتحدهم إليها.
ولو كان هذا القبيل مما يقدر عليه البشر، لوجب في ذلك أمر آخر، وهو: أنه لو كان مقدورا للعباد لكان قد اتفق إلى وقت مبعثه من هذا لقبيل ما كان يمكنهم أن يعارضوه به، وكانوا لا يفتقرون إلى تكلف وضعه، وتعمل نظمه في الحال.
فلما لم نرهم احتجوا عليه بكلام سابق، وخطبة متقدمة ورسالة سالفة، ونظم بديع، ولا عارضوه به فقالوا: هذا أفصح مما جئت به وأغرب منه أو هو مثله - علم أنه لم يكن إلى ذلك سبيل، وأنه لم يوجد له نظير.
ولو كان وجد له مثل لكان ينقل إلينا، ولعرفناه، كما نقل إلينا أشعار أهل الجاهلية، وكلام الفصحاء والحكماء من العرب، وأدى إلينا كلام الكهان وأهل الرجز والسجع والقصيد، وغير ذلك من أنواع بلاغاتهم، وصنوف فصاحاتهم.
فإن قيل: الذي بنى عليه الأمر في تثبيت معجزة القرآن: أنه وقع التحدي إلى الإتيان بمثله، وأنهم عجزوا عنه بعد التحدي إليه، فإذا نظر الناظر وعرف وجه النقل المتواتر في هذا الباب - وجب له العلم بأنهم كانوا عاجزين عنه.
وما ذكرتم يوجب سقوط تأثير التحدي، وإن ما أتى به قد عرف العجز عنه بكل حال.
قيل: إنما احتيج إلى التحدي لإقامة الحجة، وإظهار وجه البرهان [على الكافة].
لأن المعجزة إذا ظهرت فإنما تكون حجة بأن يدعيها من ظهرت عليه، ولا تظهر
على مدعٍ لها إلا وهي معلومة أنها من عند الله.
فإذا كان يظهر وجه الإعجاز فيها للكافة بالتحدي وجب فيها التحدي.
لانه تزول بذلك الشبهة عن الكل، وينكشف للجميع أن / العجز واقع في المعارضة.
وإلا كان (١) مقتضى ما قدمناه من الفصل أن من كان يعرف وجوه الخطاب، ويفتن في مصارف (٢) الكلام، وكان كاملاً في فصاحته، جامعاً للمعرفة بوجوه الصناعة - لو أنه احتج عليه بالقرآن، وقيل له، إن الدلالة على النبوة والآية للرسالة ما تلوته (٣) عليك منه،

(١) س: " وإلا فإن ".
(٢) س: " ويتقن مصارف ".
(٣) س: " على الرسالة ما أتلوه ".
(*)


الصفحة التالية
Icon