أن الوزير أبا عبد الله العارض، سأله في الليلة الثامنة، وقال له: " فما تقول في ابن الباقلانى؟ قلت: فما شر الثلاثة أم عمرو * * بصاحبك الذى لا تصحبينا يزعم أنه ينصر السنة، ويفحم المعتزلة، وينشر الرواية، وهو في أضعاف ذلك على مذهب الخرمية، وطرائق الملحدة! قال: والله إن هذا لمن المصائب الكبار، والمحن الغلاظ، والامراض التى ليس لها علاج ".
ولست أرتاب في أن أبا حيان قد جاء بالافك، حين رمى الباقلانى بأنه كان على مذهب الخرمية وطريق الملحدة، ولو كان لذلك الاتهام نصيب من الصحة لجرد له قلمه الجبار، وذهب يبين عن مظاهره ومصادره، ويفيض في الطعن عليه، ولبادر إلى ثلبه والتشهير به أعداؤه من شتى المذاهب والنحل التى نقض أقوالها، وأتى على معتقداتها من القواعد، ولتسابقوا إلى تأليب الناس عليه وتحريض
السلطان على إهدار دمه وصلبه، كما صلب بابك الخرمى.
فإن الخرمية فرقة مبتدعة، لا يعدها أحد في زمرة المسلمين، لانها تستحل كل محرم، وتذهب إلى شركة الناس جميعا في الاموال والنساء، ويجتمع رجالها ونساؤها في ليال مخصوصة، يفنونها في احتساء الخمر والرقص، ثم يطفئون كل سراج منير، وكل نار موقدة، ويعكف كل واحد منهم على المرأة التى اتفق جلوسها بجانبه " وهم يدينون بألوهية بابك الخرمى، ويدعون أنه كان لهم ملك في الجاهلية اسمه " شيروين " ينوحون على موتاهم باسمه، ويفضلونه على الانبياء جميعا.
ولست أدرى كيف يكون الباقلانى على مذهب هؤلاء الخرمية، ويخفى أمره على أعدائه المتربصين به، وعلى أوليائه الملتفين حوله، ولا يظهر إلا لابي حيان وحده! فيتفرد بتسجيله عليه! ثم لا ينقله عنه ناقل، ولا ينبزه به نابز " إن في ذلك لآية على إفكه، ودليلا على اختلافه عليه، وعداوته له.
ولعل من أسباب عداوة أبى حيان للباقلاني، بغضه للكلام والمتكلمين، الذى أفصح عنه بقوله: " ولم أر متكلما في مدة عمره بكى خشية، أو دمعت عينه خوفا أو أقلع عن كبيرة رغبة، يتناظرون مستهزئين، ويتحاسدون متعصبين،
وكقول طرفة: وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيهم * يقولون لا تهلك أسى وتجلد (١) ومثل هذا كثير.
فإذا صح مثل ذلك في بعض البيت ولم يمتنع التوارد فيه، فكذلك لا يمتنع وقوعه في الكلام المنثور اتفاقاً غير مقصود إليه، فإذا اتفق لم يكن ذلك شعراً.
وكذلك يمتنع التوارد على بيتين، وكذلك يمتنع في الكلام المنثور وقوع البيتين ونحوهما.
فثبت بهذا أن ما وقع هذا الموقع لم يعد شعراً، وإنما يعد شعراً ما إذا قصده صاحبه: تأتَّى له، ولم يمتنع عليه.
فإذا كان هو مع قصده لا يتأتى له، وإنما يعرض في كلامه عن غير
قصد إليه - لم يصح أن يقال: إنه شعر، ولا أن صاحبه شاعر، ولا يصح أن يقال: إن هذا يوجب أن مثل هذا لو اتفق من شاعر فيجب أن يكون شعراً، لأنه لو قصده لكان يتأتى له (٢).
وإنما لم يصح ذلك، لأن ما ليس بشعر فلا يجوز أن يكون شعراً من أحد، وما كان شعراً من أحد من الناس كان شعراً من كل أحد (٣).
ألا ترى أن السوقي (٤) قد يقول: " اسقني الماءَ يا غلامُ سريعاً "، وقد يتفق ذلك من الساهي ومن لا يقصد النظم.
فأما الشعر (٥) إذا بلغ الحد الذي بينا، فلا يصح أن يقع إلا من قاصد إليه.
وأما الرجز فإنه يعرض في كلام العوام كثيراً، فإذا كان بيتاً واحداً فليس ذلك بشعر.
وقد قيل: إن أقل ما يكون منه شعراً أربعة أبيات، بعد أن تتفق قوافيها، ولم يتفق ذلك في القرآن بحال.
فأما دون أربعة أبيات منه أو ما يجري مجراه في قلة الكلمات، فليس بشعر.