بعده عنه حتى أضمروا له فعلًا ينصبه، ومع هذا فالرفع فيه أقوى وأعرب، وهذا ضد ما ذكرته من جعلهم إياه ربَّ الجملة ومبتدأها في قولهم: زيد ضربته.
قيل: هذا وإن كان على ما ذكرتَه فإن فيه غرضًا من موضع آخر؛ وذلك أنه إذا نصب على ما ذكرت فإنه لا يعدم دليل العناية به، وهو تقديمه في اللفظ منصوبًا، وهذه صورة انتصاب الفضلة مقدمة لتدل على قوة العناية به، لا سيما والفعل الناصب له لا يظهر أبدًا مع تفسيره، فصار كأن هذا الفعل الظاهر هو الذي نصبه، وكذلك يقول الكوفيون أيضًا.
فإذا ثبت بهذا كله قوة عنايتهم بالفضلة حتى ألغوا حديث الفاعل معها، وبنَوا الفعل لمفعوله فقالوا: ضُرب زيد -حَسُن.
قوله تعالى: "وَعُلِّمَ آدَمُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا" لما كان الغرض فيه أنه قد عَرَفَها وعَلِمَها، وآنس أيضًا علم المخاطبين بأن الله سبحانه هو الذي علمه إياها بقراءة مَن قرأ: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾، ونحوه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ ١، وقوله تعالى: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ ٢، هذا مع قوله: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَق﴾ ٣، وقال سبحانه: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ ٤، وقال تبارك اسمه: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾ ٥.
فقد عُلم أن الغرض بذلك في جميعه أن الإنسان مخلوق ومضعوف، وكذلك قولهم: ضُرب زيد، إنما الغرض منه أن يُعلم أنه منضرب، وليس الغرض أن يُعلم مَن الذي ضربه، فإن أُريد ذلك ولم يدل دليل عليه فلَا بُدَّ أن يذكر الفاعل فيقال: ضرب فلان زيدًا، فإن لم يفعل ذلك كلف علم الغيب.
ومن ذلك قراءة الحسن رحمه الله: "أَنْبِهِمْ"٦ بوزن أَعْطِهِم، ورُوي عنه: "أَنبيهُمُ" بلا همز، ورُوي عن ابن عامر: "أَنْبِئْهِم" بهمز وكسر الهاء. قال ابن مجاهد: وهذا لا يحوز.
قال أبو الفتح: أما قراءة الحسن: "أَنْبِهِمْ" كأعطهم، فعلى إبدال الهمزة ياء على أنه يقول: أَنْبَيْتُ كأَعْطَيْتُ، وهذا ضعيف في اللغة؛ لأنه بدل لا تخفيف، والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر.

١ سورة المعارج: ١٩.
٢ سورة النساء: ٢٨، وفي نسختي الأصل وك: "وخلق الإنسان عجولًا" فجمع جزءًا من هذه الآية وآية: "وكان الإنسان عجولًا" سورة الاسراء: ١١.
٣ سورة العلق: ٢.
٤ سورة الرحمن: ٣.
٥ سورة الرحمن: ١٥.
٦ سورة البقرة: ٣٣.


الصفحة التالية
Icon