فإن قال قائل: فأنت لا تقول: مساسِ في معنى امسس. فياليت شعري ما الذي بنيت؟ قيل: ليس هذا أول معتقد معتزم تقديرا. وإن لم يخرج إلى اللفظ استعمالا. ألا ترى إلى ملامحَ وليالٍ في قول سيبويه ومذاكير ومشابِه: لا آحاد لها مستعملة. وإنما هي مرادة متصورة معتقدة، فكأن الواحد ملمحة ومشبَهْ وليلاة ومِذكار أو مِذكير أو نحو ذلك، فكذلك "لا مساسِ"، جاء على أنه قد استعمل منه في الأمر مساسِ فنفى على تصور الحكايةِ والقولِ وإن لم يأت به مسموع، ونظائرُه كثيرةٌ، وكذلك القول في "همامِ" من بيت الكميت.
ومن ذلك قراءة الحسن بخلاف: "لَنْ نُخْلَفَهُ١" بالنون.
وقرأ: "لَنْ يَخْلُفَهُ" أبو نهيك.
قال أبو الفتح: أما قراءة الجماعة: ﴿لَنْ تُخْلَفَهُ﴾ فمعناه: لن تصادفه مُخلَفًا، كقول الأعشى:
فَمَضَى وأخلفَ من قُتَيْلَةَ مَوْعِدًا٢
وقد مضى هذا مستقصى٣.
وأما "نُخْلِفَهُ" بالنون فتقديره: لن نُخْلِفَكَ إياه، أي: لن ننقض منه ما عقدناه لك. وأما "يَخْلُفَهُ" أي٤ لا يخلُف الموعد الذي لك عندنا ما أنت عليه٥ من محنتك في الدنيا بأن يكون نقيضه ومزيلا لحكمه، بل تكون في الآخرة كحالك في الدنيا. كما قال "سبحانه": ﴿قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا﴾ ٦، وكقوله "تعالى": ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ ٧، ومنه قوله "سبحانه": ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾ ٨، أي: يحضر أحدهما فيخلُف الآخر، بأن ينقض حاله ويستأثر بالأمر دونه. والهاء في "يخلفه" عائدة على "أن تقول لا مَسَاسِ"، أو "لا مِسَاسَ".
٢ انظر الصفحة ١٤٠ من الجزء الأول.
٣ انظر الصفحة ١٣٩ من الجزء الأول.
٤ ساقطة في ك.
٥ في ك: علينا، وهو تحريف.
٦ سورة الأعراف: ١٨.
٧ سورة الإسراء: ٧٢.
٨ سورة الفرقان: ٦٢.