فعهدي بكَ إذا قرأتَ هذه الآية، وتطلَّعتَ إلى معناها، وتدبَّرتها، فإنَّما تَطْلُعُ منها على أنَّ الملائكةَ أتَوا إبراهيمَ في صورةِ الأضيافِ يأكلونَ ويشربون، وبشَّرُوه بغلامٍ عليمٍ، وإنَّما امرأتُه عجبت من ذلك فأخبرتها الملائكة:
أن اللهَ قال ذلك، ولم يتجاوزْ تَدَبُّرُكَ غير ذلك.
فاسمعِ الآنَ بعضَ ما في هذه الآيات من أنواعِ الأسرارِ، وكم قد تضمَّنت من الثَّنَاءِ على إبراهيم؟.
وكيف جمعتِ الضِّيافةَ وحقوقَها؟ وما تضمَّنتْ منَ الرَّدِّ على أهلِ الباطلِ من الفلاسفةِ والمعطِّلةِ.
وكيف تضمَّنتْ علمًا عظيمًا من أعلام النُّبوَّةِ؟.
وكيف تضمَّنتْ جميعَ صفاتِ الكمالِ التي رَدَّهَا إلى العلمِ والحكمةِ؟
وكيف أشارت إلى دليلِ إمكانِ المعاد بألطفِ إشارة وأوضحِها، ثُمَّ أفصحتْ وقوعَه؟.
وكيف تضمَّنتْ الإخبار عن عدلِ الرَّبِّ وانتقامِه من الأممِ المكذِّبةِ، وتضمَّنتْ ذِكْرَ الإسلامِ والإيمانِ والفرقِ بينهما، وتضمنتْ بقاءَ آياتِ الرَّبِّ الدَّالَّةِ على توحيدِه وصدقِ رُسُلِهِ وعلى اليوم الآخرِ، وتضمَّنتْ أنَّه لا ينتفعُ بهذا كلِه إلاَّ من في قلبِه خوفٌ من عذابِ الآخرةِ، وهم المؤمنون بها، وأمَّا من لا يخافُ الآخرةِ ولا يؤمنُ بها، فلا ينتفعُ بتلك الآياتِ؟ فاسمع الآن بعض تفاصيل هذه الجملةِ)) (١).
ثُمَّ بدأ يسردُ فوائدَ واستنباطاتٍ من هذه الآيات، ولولا طولُها، لذكرتُها.
القسم الثَّالث:- التدبر والتأويل: ما تؤول إليه حقيقة الشيء:
أغلب ما تؤول إليه حقيقة الشيء يرتبط بما استأثر الله بعلمه، وهو ما يسمى بالمتشابِه الكليِّ، وهذا لا يمكن وقوع التدبر فيه، لأنَّه لا يعلمُه إلاَّ اللهُ، كما سبقَ بيانُه، ومن هنا فالتَّدبُّرُ لا يدخلُ في الغيبيَّاتِ التي استأثرَ اللهُ بعلمها، كزمنِ وقوعِ ما أخبرَ اللهُ بوقوعِه أو كيفيَّاتِ هذه المغيِّباتِ.

(١) زاد المهاجر إلى ربِّه، لابن القيِّم (ص: ٦٣- ٦٨).


الصفحة التالية
Icon