وبما أنَّ هذا القسم لا يمكنُ أن يقعَ فيه تدبُّرٌ، فإنه ليسَ له مثالٌ يُحكى، واللهُ أعلمُ.
وخلاصة الأمر أنَّ التدبر يقع في المعلوم، وهو معرفة التفسير والاستنباط من القرآن، أما ما لا يدركه العقل من الأمور الغيبية التي استأثر الله بعلمها فالواجب الإيمان بها دون الدخول في اجتهادات لبيانها، وهي مما لا يحصل بيانه من جهة العقل، ومتى وقع طلبها من جهته حصل الانحراف والزيغ في شرع الله.
المعاني المقاربةِ للتَّدبرِ:
ويقربُ من معنى التَّدبُّرِ التَّفكُّرُ والتَّذكُّرُ والنَّظرُ والتَّأملُّ والاعتبارُ والاستبصارُ، وقد وردت هذه المعاني في القرآن في مواطن.
قال ابن القيِّمِ (ت: ٧٥١): ((... وهذا يسمَّى تفكُّرًا وتذكُّرًا ونظرًا وتأمُّلاً واعتبارًا وتدبُّرًا واستبصارًا، وهذه معانٍ متقاربةٌ تجتمع في شيءٍ وتتفرقُ في آخر.
ويسمَّى تفكُّرًا، لأنه استعمالُ الفكرةِ في ذلك، وإحضارُه عنده.
ويسمَّى تذكُّرًا، لأنَّه إحضارٌ للعلمِ الذي يجب مراعاته بعد ذهولِه وغيبتِه عنه، ومنه قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) [الأعراف: ٢٠١].
ويسمَّى نظرًا، لأنَّه التفاتٌ بالقلبِ إلى المنظورِ فيه.
ويسمَّى تأمُّلاً، لأنه مراجعةٌ للنَّظرِ كرَّةً بعد كرَّةٍ، حتى يتجلَّى له وينكشف لقلبِه.
ويُسَمَّى اعتبارًا، وهو افتعالٌ من العبورِ، لأنَّه يَعْبُرُ منه إلى غيرِه، فَيَعْبُرُ من ذلك الذي قد فَكَّرَ فيه إلى معرفةٍ ثالثةٍ، وهي المقصود من الاعتبار، ولهذا يُسَمَّى عِِبْرَةً، وهي على بناءِ الحالاتِ كالجِلْسَةِ والرِّكْبَةِ والقِتْلَةِ إيذانًا بأنَّ هذا العلمَ والمعرفةَ قد صار حالاً لصاحبِه يَعْبُرُ منه إلى المقصودِ به، وقال الله تعالى: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى ) [النازعات: ٢٦].


الصفحة التالية
Icon