٢٣- قوله تعالى :﴿لابثين فيها أحقابا﴾ أي : إن هؤلاء الطاغين ماكثون ومقيمون في النار أزماناً طويلة تلو أزمان لا انقطاع لها(١)

(١)... ورد عن بعض السلف – كالحسن وقتادة والربيع بن أنس – تحديد مدة الحقب، ومع ذلك نبهوا على أن هذه الأحقاب تتوالى على الكافرين فلا تنتهي، وهذا يرفع ما يورده بعض من استدل على فناء النار بهذه الآية، وذلك أنه كان للحب مدة محددة، لكن الله أطلق هذه الأحقاب فلم يقيدها بعدد، فصدق عليهم أنهم يمكثون في النار أحقاباً لا حصر لها، كما لو قيل : لابثين فيها سنين، فهذا لا يمنع الخلود، فهم يصدق عليهم أنهم يلبثون سنين، لكن لا حصر لها.
... وفيه توجيه آخر ذكره الطبري، فقال : وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك : لابثين فيها أحقاباً في هذا النوع من العذاب، وهو أنهم :﴿لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما وغساقا﴾ [النبأ : ٢٤-٢٥]، فإذا انقضت تلك الأحقاب، صار لهم من العذاب أنواع غير ذلك ؛ كما قال جل ثناؤه في كتابه :﴿هذا وإن للطاغين لشر مئاب * جهنم يصلونها فبأس الهماد * هذا فليذوقوه حميم وعشاق * وءاخر من شكله أزواج﴾ [ص : ٥٥- ٥٨]، وهذا القول عندي أشبه بمعنى الآية.
... وقد ذكر الإمام الطبري عن مقاتل بن حيان أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً﴾ [النبأ : ٣٠]، ثم قال :"ولا معنى لهذا القول ؛ لأن قوله :﴿لابثين فيها أحقابا﴾ [النبأ : ٢٣]، ثم قال :" ولا معنى لهذا القول ؛ لأن قوله :﴿لابثين فيها أحقابا﴾ [النبأ : ٢٣] خبر، والأخبار لا يكون فيها نسخ، وإنما النسخ في الأمر والنهي ".
... ولو حُمل كلام مقاتل على مفهوم النسخ عند السلف – وهو مطلق الرفع لشيء من معنى الآية أو حُكمها، وهو أعم من المصطلح الذي ذكره الطبري – لما كان في الأمر إشكال، ويكون مراد مقاتل أن الآية الأخرى تبين أنهم إذا انتهوا من العذاب في هذه الأحقاب، فإنه يزاد عليهم العذاب بعد ذلك، وهذا هو معنى التوجيه الثاني الذي ذكره الطبري واختاره.
... ويظهر من هذا المثال وغيره أ، الإمام الطبري رحمه الله تعالى لم يكن يُعمل مصطلح السلف في النسخ، ولذا كان يعترض على مثال هذا المثال، وفي هذا فائدة علمية ذات خطر، وهي أن تعرف مصطلح كل قوم، ولا تحمل كلامهم على مصطلح غيرهم، فتقع في الخطأ، وأعظم ما يكون الخطأ إذ حملت ألفاظ القرآن والسنة على المصطلحات حادثة مبتدعة، فتقع بذلك الطوام، وتحرف نصوص الكتاب والسنة. انظر في ذلك : الصواعق المرسلة، لابن القيم، تحقيق : الدخيل الله (١ : ١٨٩ – ١٩٢).


الصفحة التالية
Icon