والثاني: أنه ميزانٌ حقيقيُّ له كفتانِ، كما هو معروفٌ من موازين الناسِ، وأنه توزنُ به الأعمالُ.
ثمَّ رجَّحَ القول الثاني، فقال: ((وهذا القولُ أصحُّ من الأوَّلِ من ثلاثِ جهاتٍ:
أوَّلُها: أنَّ ظواهرَ كتاب الله عز وجل تقتضيه، وحديث الرسول عليه الصلاة والسلام ينطق به، ومن ذلك قوله لبعضِ الصَّحابةِ – وقد قال له: يا رسول الله، أين أجدك في يومِ القيامةِ؟ - فقال: اطلبني عند الحوضِ، فإن لم تجدني، فعند الميزانِ.
ولو لم يكن الميزانُ مرئيًّا محسوسًا لما أحاله رسولُ الله ﷺ على الطلبِ عنده.
وجهةٌ أخرى: أنَّ النَّظَرَ في الميزانِ والوزنِ والثِّقَلِ والخِفَّةِ المقترناتِ بالحسابِ لا يفسدُ شيءٌ منه، ولا تختلُّ صِحَّتُهُ. وإذا كانَ الأمرُ كذلك، فَلِمَ نخرجُ من حقيقةِ الأمرِ إلى مجازِه دون علَّةٍ؟.
وجهةٌ ثالثةٌ: وهي أنَّ القولَ في الميزانِ هو من عقائدِ الشَّرعِ الذي لم يُعرفْ إلاَّ سَمْعًا، وإن فتحنا فيه باب المجازِ غَمَرَتْنَا أقوالُ الملحدة والزَّنادقةِ في أنَّ الميزانَ والسِّراطَ والجنَّة والنَّار والحشر ونحو ذلك إنما هي ألفاظٌ يرادُ بها غيرُ الظَّاهرِ.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فينبغي أن يُجرى في هذه الألفاظِ إلى حملها على حقائقها...)) (١).
وهذا الذي حَذِرَ منه ابن عطيَّةَ (ت: ٥٤٢) قد وقعَ، وقد اعتمدَ بعضُ الفلاسفةِ الذينَ عاشوا في ظلِّ الإسلامِ على مبدئه في التَّأويلِ، وليسَ له أن يقولَ: هذه الأمورُ إنما تُعلمُ من جهةِ السَّمعِ فقط، لأنَّ من يؤوِّلُ نصوص المعادِ يمكنُ أن يقولَ: للعقلِ فيها مدخلٌ. وبهذا تضطربُ الأمورُ ولا يسلمُ في الشَّريعةِ بابٌ، لأنَّه يمكنُ أن يُحملَ على المجازِ العقليِّ.

(١) المحرر الوجيز، ط: قطر (٥: ٤٣٢- ٤٣٣).


الصفحة التالية
Icon