فالخوارجُ استدلُّوا ببعضِ آياتٍ على أنَّ الحكمَ لله، وجَهِلُوا وتناسوا الآياتِ الأخرى التي تثبت جواز حُكْمِ الخلقِ في بعض القضايا، فقالوا في مناظرةِ ابن عباس (ت: ٦٨) لهم: ((أنه حَكَّمَ الرِّجالَ في دين الله(١)، وقد قال الله عز وجل: ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) [الأنعام: ٥٧، يوسف: ٤٠- ٦٧])).
فردَّ عليهم ابن عبَّاسٍ (ت: ٦٨)، وقال: ((أرأيتم إن قرأتُ عليكم من كتابِ اللهِ المُحْكَمِ وحدَّثُتُكم من سنَّةِ نبيِّكم ﷺ ما لا تنكرون، أترجعون؟.
قالوا: نعم.
قال: قلت: أمَّا قولُكم: إنه حَكَّمَ الرِّجالَ في دين الله، فإنه يقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء ) إلى قوله": ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ) [المائدة: ٩٥]، وقال في المرأة وزوجها: ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا ) [النساء: ٣٥]، أنشدكم اللهَ: أفَحُكْمُ الرِّجالِ في حقنِ دمائهم وأنفسِهم وصلاحِ ذاتِ بينهم أحقُّ، أم في أرنبٍ ثمنُها رُبْعُ دِرْهَمٍ؟!.
فقالوا: اللَّهمَّ في حَقْنِ دمائهم وصلاحِ ذاتِ بينهم.
قال: أخرجتُ من هذه. قالوا: اللَّهمَّ نعم...)) (٢).
فانظرْ، كيف ضَلُّوا بأخذِهم جزءًا من الآياتِ، وتركهم غيرَها مما يبيِّنُ فسادَ ما اعتقدوه؟! وانظر كيف ردَّهم الراسخُ في العلمِ: حبرُ الأمَّةِ ابن عبَّاسٍ (ت: ٦٨)؟! فللَّهِ دَرُّه من راسخٍ في العلمِ.
والسَّبئيَّةُ حرَّفوا شيئًا من القرآنِ، وجعلوه يدلُّ على معتقداتِهم، وكذا سارَ على طريقتِهم في التَّجريفِ من جاء بعدهم من غلاةِ الرَّافضةِ ومن الباطنيَّة.

(١) يعنون أمير المؤمنين عليًّا رضي الله عنه.
(٢) نصُّ المناظرةِ كاملاً في حلية الأولياء (١: ٣١٨- ٣١٩).


الصفحة التالية
Icon