وإنما لم يتعرّض لسيدته مع ما صنعته به كرماً ومراعاة للأدب، وقدّم سؤال النسوة وفحص حالهنّ لتظهر براءة ساحته؛ لأنه لو خرج في الحال لربما كان يبقى في قلب الملك من تلك التهمة أثر، فلما التمس من الملك أن يفحص عن حال تلك الواقعة دل ذلك على براءته من تلك التهمة، فبعد خروجه لا يقدر أحد أن يلطخه بتلك الرذيلة وأن يتوصل بها إلى الطعن فيه، وفي ذلك دليل على أنه ينبغي للشخص أن يجتهد في نفي التهم ويتقي مواقعها وروي أنه ﷺ قال: «لقد عجبت من يوسف وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى اشترطت أن يخرجوني، ولقد عجبت منه حيث أتاه الرسول فقال: ارجع إلى ربك ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر، إن كان لحليماً ذا أناة». وأصل الحديث في الصحيحين مختصراً، وإنما قال ﷺ ذلك على سبيل التواضع لا أنه ﷺ كان في الأمر منه مبادرة وعجلة لو كان مكان يوسف، والتواضع لا يصغر كبيراً ولا يضع رفيعاً ولا يبطل لذي حق حقه، لكنه يوجب لصاحبه فضلاً ويلبسه جلالة وقدراً، وقوله: «والله يغفر له» مثل هذه المقدمة مشعرة بتعظيم المخاطب من توقيره وتوقير حرمته كما تقول لمن تعظمه: عفا الله عنك ما صنعت في أمري، ورضي الله تعالى عنك ما جوابك عن كلامي، وقوله: «إن كان لحليماً» إن هي المخففة من الثقيلة، والأناة الوقار، وقيل: هو اسم من التأني في الأمور. وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين ولا همزة بعدها، والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها ﴿إنّ ربي﴾، أي: الله ﴿بكيدهنّ عليم﴾ حين قلن أطع مولاتك، وفيه تعظيم كيدهنّ والاستشهاد بعلم الله تعالى عليه وأنه بريء مما عيب به، والوعيد لهنّ على كيدهنّ، وقيل: المراد بربي الملك، وجعله رباً لنفسه لكونه مربياً له، وفيه إشارة إلى كون ذلك الملك عالماً بكيدهنّ ومكرهنّ،