﴿فألقي السحرة﴾ أي: فألقاهم ما رأوا من أمر الله تعالى بغاية السرعة، وبأيسر أمر ﴿سجداً﴾ على وجوههم لله تعالى توبة مما صنعوا وإغباناً لفرعون بسجودهم، وتعظيماً لما رأوا، وذلك لأنهم كانوا في الطبقة العليا من علم السحر، فلما رأوا فعل موسى عليه السلام خارجاً عن صناعتهم عرفوا أنه ليس من السحر البتة، ويقال: قال رئيسهم: كنا نغلب الناس بالسحر، وكانت الآلات تبقى علينا، فلو كان هذا سحراً، فأين الذي ألقيناه، فاستدلوا بتغيير أحوال الأجسام على الصانع القادر، وبظهورها على يد موسى عليه السلام على كونه رسولاً صادقاً من عند الله لا جرم تابوا وآمنوا، وأتوا بما هو النهاية في الخضوع وهو السجود؛ قال الأصبهاني: سبحان الله ما أعظم شأنهم ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين، فكأن قائلاً قال هذا فعلهم، فماذا قالوا؟ فقيل: ﴿قالوا: آمنا برب هارون وموسى﴾ ولم يقولوا: آمنا برب العالمين؛ لأن فرعون ادّعى الربوبية في قوله: ﴿أنا ربكم الأعلى﴾ (النازعات، ٢٤)
والإلهية في قوله: ﴿ما علمت لكم من إله غيري﴾ (القصص، ٣٨)، فلو أنهم قالوا ذلك لكان فرعون يقول: إنهم آمنوا بي لا بغيري، فلقطع هذه التهمة اختاروا هذه العبارة، والدليل على ذلك أنهم لم يقتصروا على موسى بل قدّموا هارون لأن فرعون ربى موسى في صغره، فلو اقتصروا على موسى أو قدّموا ذكره فربما توهم أن المراد فرعون، وذكر هارون على الاستتباع وقيل: قدموه لكبر سنه، أو لرويّ الآية، فسبحان الله ما أعظم أمرهم كانوا أول النهار سحرة يقرون لفرعون بالربوبية، وآخره شهداء بررة روي أنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار، ورأوا ثواب أهلها، وعن عكرمة لما خرّوا سجداً أراهم الله تعالى في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة، فكأنه قيل: ما قال لهم فرعون حينئذٍ؟ فقيل:
(٥/٢٨٢)
---