والمعنى: أن هؤلاء المنافقين يحسبون الأحزاب يعني قريشاً وغطفان واليهود ولم يتفرقوا عن قتالهم من غاية الجبن عند ذهابهم كأنهم غائبون حيث لا يقاتلون كقوله تعالى ﴿ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً﴾ (الأحزاب: ٢٠)
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بالكسر ﴿وإن يأت الأحزاب﴾ بعدما ذهبوا كرة أخرى ﴿يودوا﴾ أي: يتمنوا ﴿لو أنهم بادون في الأعراب﴾ أي: كائنون في البادية بين الأعراب الذين هم عندهم في محل نقص وممن تكره مخالطته، ثم ذكر حال فاعل بادون بقوله تعالى: ﴿يسألون﴾ كل وقت ﴿عن أنبائكم﴾ أي: أخباركم العظيمة مع الكفار وما آل إليه أمركم جرياً على ما هم عليه من النفاق ليبقوا لهم عندكم وجهاً، كأنهم مهتمون بكم يظهرون بذلك تحرقاً على غيبتهم عن هذه الحرب ﴿ولو﴾ أي: والحال أنهم لو ﴿كانوا﴾ هؤلاء المنافقون ﴿فيكم﴾ هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة، وكان قتال ﴿ما قاتلوا﴾ معكم ﴿إلا قليلاً﴾ نفاقاً كما فعلوا قبل ذهاب الأحزاب من حضورهم معكم تارة واستئذانهم في الرجوع إلى منازلهم أخرى.
ولما أخبر تعالى عنهم بهذه الأحوال التي هي غاية في الدناءة أقبل عليهم إقبالاً يدلهم على تناهي الغضب بقوله تعالى: مؤكداً محققاً لأجل إنكارهم:
﴿لقد كان لكم﴾ أيها الناس كافة الذين المنافقون في غمارهم ﴿في رسول الله﴾ الذي جلاله من جلاله وكماله من كماله ﴿أسوة﴾ أي: قدوة ﴿حسنة﴾ أي: صالحة وهو المؤتسى به أي: المقتدى به، كما تقول في البيضة: عشرون منَّاً حديداً أي: هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد، أو أن فيه خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى بها، كالثبات في الحرب ومقاسات الشدائد إذ كسر رباعيته وجرح وجهه وقتل عمه، وأوذي بضروب الأذى، فواساكم مع ذلك بنفسه فافعلوا أنتم كذلك واستسنوا بسنته.
(٨/٢٧)
---