﴿ومالي لا أعبد الذي فطرني﴾ أصله: وما لكم لا تعبدون ولكنه صرف الكلام عنه ليكون الكلام أسرع قبولاً حيث أراد لهم ما أراد لنفسه والمراد: تقريعهم على تركهم عبادة خالقهم إلى عبادة غيره ولذلك قال ﴿وإليه ترجعون﴾ دون وإليه أرجع مبالغة في التهديد وفي العدول عن مخاصمة القوم إلى حال نفسه مبالغة في الحكمة، وهي أنه لو قال: ما لكم لا تعبدون الذي فطركم لم يكن في البيان مثل قوله: ما لي؛ لأنه لما قال: مالي فأحد لا يخفى عليه حال نفسه، علم كل واحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد؛ لأنه أعلم بحال نفسه وقوله ﴿الذي فطرني﴾ أشار به إلى وجود المقتضى فإن قوله: ﴿مالي﴾ إشارة إلى عدم المانع وعند عدم المانع لا يوجد الفعل ما لم يوجد المقتضى فقوله ﴿الذي فطرني﴾ دليل المقتضي فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه ومنعم بالإيمان، والمنعم يجب على المنعم عليه شكر نعمته، وقدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضي مع أن المستحسن تقديم المقتضي، لأن المقتضي لظهوره كان مستغنياً عن البيان فلا أقل من تقديم ما هو أولى بالبيان للحاجة إليه، واختار من الآيات فطرة نفسه؛ لأن خالق عمرو يجب على زيد عبادته؛ لأن من خلق عمراً لا يكون إلا كامل القدرة واجب الوجود فهو مستحق للعبادة بالنسبة إلى كل مكلف، لكن العبادة على زيد بخلق زيد أظهر إيجاباً.
تنبيه: أضاف الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم؛ لأن الفطرة أثر النعمة فكانت عليه أظهر، وفي الرجوع معنى الزجر فكان بهم أليق، روي أنه لما قال ﴿اتبعوا المرسلين﴾ أخذوه ورفعوه إلى الملك فقال له: أفأنت تتبعهم؟ فقال ﴿ومالي لا أعبد الذي فطرني﴾ أي: أي: شيء يمنعني أن أعبد خالقي وإليه ترجعون، تردون عند البعث فيجزيكم بأعمالكم ومعنى فطرني: خلقني اختراعاً ابتداء، وقيل: خلقني على الفطرة كما قال تعالى ﴿فطرة الله التي فطر الناس عليها﴾ (الروم: ٣٠)
ثم عاد إلى السياق الأول فقال:
(٩/١٥٠)
---