﴿لكن الذين اتقوا ربهم﴾ استدراك بين شبهي نقيضين أو ضدين وهما المؤمنون والكافرون أي: جعلوا بينهم وبين المحسن إليهم وقاية في كل حركة وسكون فلم يجعلوا شيئاً من ذلك إلا بنظر يدلهم على رضاه وقوله تعالى: ﴿لهم غرف﴾ أي: علالي من الجنة يسكنونها ﴿من فوقها غرف﴾ شديدة العلو مقابل لما ذكر في وصف الكفار لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل والمعنى لهم منازل في الجنة رفيعة ومن فوقها منازل أرفع منها.
فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: ﴿مبنية﴾؟ أجيب: بأن المنزل إذا بني على منزل آخر كان الفوقاني أضعف بناء من التحتاني فقوله تعالى: ﴿مبنية﴾ فائدته أنه وإن كان فوق غيره لكنه في القوة والشدة مساوٍ للمنزل الأسفل.
ولما كانت المنازل لا تطيب إلا بالماء وكان الجاري أحسن أشرف قال تعالى ﴿تجري من تحتها﴾ أي: من تلك الغرف الفوقانية والتحتانية ﴿الأنهار﴾ أي: المختلفة كما قال تعالى: ﴿فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى﴾ (محمد: ١٥)
وقوله تعالى: ﴿وعد الله﴾ مصدر مؤكد لمضمون الجملة فهو منصوب بفعله المقدر لأن قوله تعالى: ﴿غرف﴾ في معنى وعدهم الله ذلك ﴿لا يخلف الله الميعاد﴾ لأن الخلف نقص وهو على الله سبحانه محال، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: «إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» وقوله: الغابر أي: الباقي في الأفق في ناحية المشرق والمغرب.
ولما وصف الله تعالى الآخرة بوصف يوجب الرغبة العظيمة فيها وصف الدنيا بصفات توجب اشتداد النفرة عنها بقوله تعالى:
(٩/٣٦٣)
---