ثالثها: أنّ مثل الجنة مبتدأ، والخبر: قوله تعالى ﴿كمن هو خالد في النار﴾ فقدّره ابن عطية: أمثل أهل الجنة كمن هو خالد فقدر حرف الإنكار ومضافاً ليصح وقدّره الزمخشريّ: أمثّل الجنة كمثل جزاء من هو خالد. والجملة من قوله تعالى ﴿فيها أنهار﴾ حال من الجنة أي: مستقرّة فيها أنهار ﴿من ماء﴾ ولما كان ماء الدنيا مختلف الطعوم، مع اتحاد الأرض ببساطها، وشدّة اتصالها، للدلالة على أنّ فاعل ذلك قادر مختار وقد يكون آسناً أي: متغيراً عن الماء الذي يشرب بريح منتنة من أصل خلقته، أو من عارض عرض له من منبعه، أو مجراه قال تعالى: ﴿غير آسن﴾ أي: ثابت له في وقت ما شيء من الطعم، أو اللون، أو الريح بوجه من الوجوه وإن طالت إقامته وإن أضيف إليه غيره فإنه لا يقبل التغير بوجه بخلاف ماء الدنيا فيتغير لعارض وقرأ ابن كثير: بقصر الهمزة والباقون: بمدّها وهما لغتان ﴿وأنهار من لبن﴾ ولما كان التغير غير محمود قال تعالى: ﴿لم يتغير طعمه﴾ أي: بنفسه عن أصل خلقته وإن أقام مدى الدهر بخلاف لبن الدنيا، لخروجه من الضرع وهذا يفهم: أنهم لو أرادوا تغييره لشهوة اشتهوها تغير. وأنه مع طيبه على أنواع كثيرة، كما كان في الدنيا متنوعاً ﴿وأنهار من خمر﴾ ولما كان الخمر يكره طعمها وإنما يشربها شاربوها لأثرها. وإنه متى تغير طعمها زال اسمها عرّف أنّ كل ما في خمر الجنة في غاية الحسن، غير متعرّض لطعم فقال تعالى: ﴿لذة﴾ أي: لذيذة ﴿للشاربين﴾ في طيب الطعم، وحسن العاقبة بخلاف خمر الدنيا فإنها كريهة عند الشرب ﴿وأنهار من عسل﴾ ولما كان عسل الدنيا لا يوجد إلا مخلوطاً، لخروجه من بطون النحل بالشمع، وغيره من القذى قال تعالى:
﴿مصفى﴾ أي: هو صاف صفاء ما اجتهد في تصفيته من ذلك وهذا الوصف ثابت له دائماً لا انفكاك له في وقت ما.
(١١/٦٠)
---


الصفحة التالية
Icon