وقال كرم بن أبي السائب الأنصاري: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أوّل ما ذكر رسول الله ﷺ بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف النهار جاء ذئب فأخذ حملاً من الغنم فوثب الراعي وقال: يا عامر الوادي جارك فنادى منادٍ لا نراه يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمة، فكان ذلك فتنة للإنس باعتقادهم في الجن غير ما هم عليه، فتبعوهم في الضلال وفتنة للجن بأن يغتروا بأنفسهم ويقولوا سدنا الإنس والجن فيَضلوا ويُضلوا ولذلك سبب عنه قوله تعالى: ﴿فزادوهم﴾ أي: الإنس والجن باستعاذتهم ﴿رهقاً﴾ أي: ضيقاً وشدّة وغشياناً، فجاءهم فيه من أحوال الضلال التي يلزم منها الضيق والشدّة وقال مجاهد: الرهق: الإثم وغشيان المحارم ورجل رهق إذا كان كذلك. ومنه قوله تعالى: ﴿وترهقهم ذلة﴾ (يونس: ٢٧)
وقال الأعشى:
*لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ** هل يشتفي عاشق ما لم يصب رهقا*
يعني إثماً، وقال مجاهد أيضاً: زادوهم أي: أنّ الإنس زادوا الجن طغياناً بهذا التعوّذ حتى قالت الجن: سدنا الإنس والجن، وقيل: لا ينطلق لفظ الرجال على الجنّ، فالمعنى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس من شرّ الجن، فكان الرجل مثلاً يقول: أعوذ بحذيفة بن بدر من جنّ هذا الوادي. قال القشيري: وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرجل على الجن.
تنبيه: قوله تعالى: ﴿من الإنس﴾ صفة لرجال وكذا قوله ﴿من الجنّ﴾.
﴿وأنهم﴾، أي: الإنس ﴿ظنوا﴾ والظنّ قد يصيب وقد يخطئ وهو أكثر ﴿كما ظننتم﴾ أي: أيها الجنّ ويجوز العكس ﴿أن﴾ مخففة أي: أنه ﴿لن يبعث الله﴾ أي: الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة ﴿أحداً﴾ أي: بعد موته لما لبس به إبليس عليهم حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن، أو أحداً من الرسل يزيل به عماية الجهل، وقد ظهر بالقرآن أن هذا الظنّ كاذب، وأنه لا بدّ من البعث في الأمرين.
(١٣/١٨٠)
---