فإن قيل: قد تقدّم أنّ قوله: ﴿يد الله مغلولة﴾ عبارة عن البخل فما تفعل في قوله تعالى: ﴿غلت أيديهم﴾ ومن حقه أن يطابق ما تقدّمه؟ أجيب: بأنه يجوز أن يكون معناه الدعاء عليهم بالبخل والنكد، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله تعالى وأنكدهم والمطابقة على هذا ظاهرة ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغلّ الأيدي حقيقة يغلون في الدنيا أسارى وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم كما قال تعالى: ﴿إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل﴾ (غافر، ٧١) وعلى هذا تكون المطابقة حاصلة من حيث لفظ مغلولة وغلت من حيث ملاحظة أنّ الأصل في القول الشنيع أن يقابل بالدعاء على قائله ﴿ولعنوا﴾ أي: أبعدوا مطرودين عن الجناب الكريم ﴿بما قالوا﴾ فمن لعنهم أنهم مسخوا قردة وخنازير ثم ردّ الله تعالى عليهم بقوله: ﴿بل يداه مبسوطتان﴾ مشيراً بالتثنية إلى غاية الجود وإنّ غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطي بيديه جميعاً ﴿ينفق كيف يشاء﴾ أي: هو مختار في إنفاقه يضيق تارة ويوسع أخرى على حسب مشيئته ومقتضى حكمته لا اعتراض عليه وقيل: القائل هذه المقالة فنحاص بن عازوراء فلما لم ينهه الآخرون ورضوا بقوله: أشركهم الله تعالى فيها.
﴿وليزيدنّ كثيراً منهم﴾ أي: ممن أراد الله فتنته ثم ذكر فاعل الزيادة فقال: ﴿ما أنزل إليك من ربك﴾ من القرآن ﴿طغياناً﴾ أي: تمادياً في الجحود ﴿وكفراً﴾ بآيات الله فيزدادون على كفرهم وطغيانهم طغياناً وكفراً مما يسمعون من القرآن كما يزداد المريض مرضاً من تناول الغذاء الصالح للأصحاء ﴿وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة﴾ فكل فرقة منهم تخالف الأخرى فلا تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أقوالهم.
(١٥/٨٨)
---


الصفحة التالية
Icon