ولما كان التمثيل ويصار إليه لكشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه فإنّ المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم لأنّ من طبعه ميل الحس وحب المحاكاة شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء وإشارات الحكماء فيمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم بالعظيم وإن كان الممثل أعظم من كل عظيم كما مثل سبحانه وتعالى في الإنجيل غلّ الصدر بالنخالة والقلوب القاسية بالحصاة ومخالطة السفهاء بإثارة الزنابير ونصه على ما حكاه الفخر الرازي في الأوّل: لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم. وفي الثاني: قلوبكم كالحصاة التي لا تطبخها النار ولا يلينها الماء ولا ينسفها الريح. وفي الثالث: لا تثيروا الزنابير فتلدغكم فكذلك لا تخالطوا السفهاء فيشتموكم، وجاء في كلام العرب أسمع من قراد لأنّ العرب تزعم أنه يسمع صوت أخفاف الإبل من مسيرة يوم فيتحرّك لها، وقيل: من مسيرة سبع ليال وأعز من مخ البعوض يضرب لمن يكلف الأمور الشاقة ﴿فما فوقها﴾ أي: ما زاد على البعوضة في الجثة كالذباب والعنكبوت، والمعنى أنه لا يستحيي من ضرب المثل بالبعوضة فضلاً عما هو أكبر منه، أو المعنى الذي جعلت فيه مثلاً وهو الصغر والحقارة كجناحها فإنه عليه الصلاة والسلام ضرب جناحها مثلاً للدنيا بقوله في خبر الترمذي: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء» ونظيره في احتمال الفوقية للجثة وللمعنى ما روى البخاري وغيره: أنّ رجلاً بمنى خر على طنب فسطاط فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة» فإنه يحتمل ما يجاوز الشوكة في الألم كالسقوط على الطنب وما زاد عليها في القلة


الصفحة التالية
Icon