وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي الرَّافِعِ قَوْلَهُ :﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾، وَقَوْلَهُ :﴿اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ : مَعْنَى قَوْلِهِ :﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ : شَهَادَةُ اثْنَيْنِ ذَوِي عَدْلٍ، ثُمَّ أُلْقِيَتِ الشَّهَادَةُ وَأُقِيمَ الاِثْنَانِ مَقَامَهَا، فَارْتَفَعَا بِمَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ بِهِ مُرْتَفِعَةً لَوْ جُعِلَتْ فِي الْكَلاَمِ. قَالَ : وَذَلِكَ، فِي حَذْفِ مَا حُذِفَ مِنْهُ وَإِقَامَةِ مَا أُقِيمَ مَقَامَ الْمَحْذُوفِ، نَظِيرُ قَوْلِهِ :﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾، وَإِنَّمَا يُرِيدُ : وَاسْأَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ، وَانْتَصَبَتِ الْقَرْيَةُ بِانْتِصَابِ الأَهْلِ وَقَامَتْ مَقَامَهُ، ثُمَّ عَطَفَ قَوْلَهُ :﴿أَوْ آخَرَانِ﴾ عَلَى (الاِثْنَيْنِ).
وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ : رَفَعَ الاِثْنَيْنِ بِالشَّهَادَةِ : أَيْ لِيَشْهَدَكُمُ اثْنَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ.
وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ : رُفِعَتِ الشَّهَادَةُ بِـ ﴿إِذَا حَضَرَ﴾، وَقَالَ : إِنَّمَا رُفِعَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ :﴿إِذَا حَضَرَ﴾، فَجَعَلَهَا شَهَادَةً مَحْذُوفَةً مُسْتَأْنَفَةً، لَيْسَتْ بِالشَّهَادَةِ الَّتِي قَدْ رُفِعَتْ لِكُلِّ الْخَلْقِ، لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ :﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾، وَهَذِهِ شَهَادَةٌ لاَ تَقَعُ إِلاَّ فِي هَذَا الْحَالِ، وَلَيْسَتْ مِمَّا ثَبَتَ.
وَأَوْلَى هَذِهِ الأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ : الشَّهَادَةُ مَرْفُوعَةٌ بِقَوْلِهِ :﴿إِذَا حَضَرَ﴾، لِأَنَّ قَوْلَهُ :﴿إِذَا حَضَرَ﴾ بِمَعْنَى : عِنْدَ حُضُورِ أَحَدِكُمُ الْمَوْتُ، وَالاِثْنَانِ مَرْفُوعٌ بِالْمَعْنَى الْمُتَوَهَّمِ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ، فَاكْتُفِيَ مِنْ قِيلِ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا قَدْ جَرَى مِنْ ذِكْرِ الشَّهَادَةِ فِي قَوْلِهِ :﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَصْدَرٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالاِثْنَانِ اسْمٌ، وَالاِسْمُ لاَ يَكُونُ مَصْدَرًا، غَيْرَ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَضَعُ الأَسْمَاءَ مَوَاضِعَ الأَفْعَالِ. فَالأَمْرُ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَصَرْفُ كُلِّ ذَلِكَ إِلَى أَصَحِّ وُجُوهِهِ مَا وَجَدْنَا إِلَيْهِ سَبِيلاً أَوْلَى بِنَا مِنْ صَرْفِهِ إِلَى أَضْعَفِهَا.


الصفحة التالية
Icon