قلنا في أكثر من مناسبة أن الآية يجب أن توضع في سياقها لتتضح الأمور والمعنى والمقصود: آية البقرة في مقام التكريم تكريم بني إسرائيل، بدأ الكلام معهم بقوله سبحانه (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (٤٧) البقرة) العالمين هنا أي قومهم في زمانهم وليس على كل العالمين الآن واستعمل القرآن العالمين عدة استعمالات (قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (٧٠) الحجر) يعني فضلناكم على العالمين في وقتهم وليس كل العالمين. إذن السياق في البقرة في مقام التكريم يذكرهم بالنعم وفي الأعراف في مقام التقريع والتأنيب. هم خرجوا من البحر ورأوا أصناماً فقالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة وعبدوا العجل وهذا لم يذكره في البقرة وانتهكوا حرمة السبت ورد في سياق آخر غير سياق التكريم وإنما في سياق التقريع والتأنيب وذكر جملة من معاصيهم فالسياق اختلف. قال في البقرة (وإذ قلنا) بإسناد القول إلى نفسه سبحانه وتعالى وهذا يكون في مقام التكريم وبناه للمجهول في الأعراف للتقريع (وإذ قيل لهم) مثل أوتوا الكتاب وآتيناهم الكتاب، أوتوا الكتاب في مقام الذم. قال (ادخلوا القرية فكلوا) في البقرة فكلوا الفاء تفيد الترتيب والتعقيب يعني الأكل مهيأ بمجرد الدخول الأكل موجود ادخلوا فكلوا أما في الأعراف (اسكنوا وكلوا) الدخول ليس سكناً فقد تكون ماراً إذن الأكل ليس بعد الدخول وإنما بعد السكن، ولم يأت بالفاء بعد السكن أما في البقرة فالفاء للتعقيب الأكل بعد الدخول وأتى بالفاء. (وكلوا) الواو تفيد مطلق الجمع تكون متقدم متأخر، ففي البقرة الأكل مهيأ بعد الدخول أما في الأعراف فالأكل بعد السكن ولا يدرى متى يكون؟ الأكرم أن يقول ادخلوا فكلوا.
قيل لم يبعث الله نبياً منذ آدم إلى سيدنا عيسى - عليه السلام - إلا أخذ عليه هذا الميثاق إذا جاء محمد وأنت حيّ لتؤمنن به ولتنصرنه وليتبعه وفي الحديث "والله لو كان موسى حيّاً بين أظهركم لما وسعه إلا أن يتبعني" فهو إذن أخذ ميثاق النبيين جميعاً أنه لئن جاء الرسول الخاتم ليؤمنن به، أأقررتم وأخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا. إذن أخذ الميثاق على كل الأنبياء لئن بُعث هذا الرسول الخاتم وهو موجود ليؤمنن به ولينصرنه فكل الأنبياء تعلم بقدوم الرسول - ﷺ -. (وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) الإصر هو العهد الثقيل، الميثاق القوي. وقرأتُ أنه آدم عندما أُخرج من الجنة نظر إليها فرأى على بابها مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله.
آية (٨٣):
*(أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) آل عمران) لم ابتدأت الآية بالاستفهام وحقها من حيث الظاهر أن تبدأ بالنهي أي لا تبتغوا غير دين الله؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
تدبّر واعتبر من هذه الآية التي جاءت على طريقة الاستفهام الإنكاري الذي يحمل معاني التوبيخ والتحذير إذ كيف يمكن للإنسان أن يختار ديناً غير دين الله والأجرام العلوية الكبيرة انصاعت لأمره وأسلمت؟!
آية (٨٤):
وقال سابقاً (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) تسخير، نستفيد من قوله (سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) وقوله (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) على أنه المتصرف فيهما وليس فقط أنه المالك. هناك خلق وهنالك مِلك وهنالك تصرف. الخلق لا يغني عن الملك والتصرف. إذن هو المالك للسموات والأرض وما فيهما والمتصرف فيهما. أنت تملك داراً بنيتها وأثثتها فصارت الدار وما فيها لك والحاكم يريد أن يقيم شارعاً فرأى أن يهدم البيت فالحاكم هو المتصرف وليس أنت لأنه يحدد المصلحة العليا. إذن هنا المالك للسموات والأرض وما فيهما والمتصرف فيهما هو الله سبحانه وتعالى.
*قال تعالى هنا (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) وقال في الحج (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤)) فما الفرق بين الآيتين؟
يستفتونك وردت مرة واحدة في القرآن وكان في بداية موضوع (فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (١٧٥)) الكلام إنتهى ثم قال: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦) النساء) كلام جديد. (
* لماذا جاءت ثمناً وحدها (فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (١٠٦) المائدة) مع أنها وردت في القرآن ثمناً قليلاً؟(د. حسام النعيمى)
لو رجعنا إلى الآيات الكريمة سنجد أن كلمة ثمن أوالثمن وردت في أحد عشر موضعاً في القرآن الكريم كله. في موضع واحد فقط لم يوصف وهو موضع السؤال. ووصف في المواضع الأخرى: مرة واحدة وصف بأنه بخس والأماكن الأخرى وصف بأنه قليل. لما ننظر في الآيات: الآية التي لم يوصف بها تتعلق بشهادة على وصية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (١٠٦)) هنا فقط لم يوصف وقال : لا نشتري به ثمناً بدون وصف. هنا الأمر يتعلق بمصالح الناس لأن مصلحة هؤلاء الذين لهم وصية. لما تعلق الأمر بمصلحة الناس جاءت الآية بكلمة ثمن. والثمن هو المقابل أو العِوَض من غير بيانٍ لوصفه حتى لا يجد أحد هذين الشاهدين أي مجال للتنصّل. لوقيل في غير القرآن: لا نشتري به ثمناً قليلاً أو عظيماً يمكن أن يجدا حجة. يقول مثلاً أقسمت أن لا أشترى به ثمناً قليلاً لكن يجوز ثمن معنوي أنه سأتقرّب من هذا الذي سأشهد زوراً من أجله، سأتخلى عن قسمي.
إسم هذا العصر العصر الجاهلي سماه ربنا سبحانه وتعالى بالجاهلية والمستشرقون سموه (PRE-ISLAMIC) فيأتي البعض ويسمونه ما قبل الإسلام؟!. العصر الجاهلي بمعنى جهل الدين أو جهل العبادة بعد أن كانوا على دين إبراهيم - عليه السلام -، وهو دين التوحيد جهلوا فعبدوا الأصنام ومنهم من قال تُقرِّبنا إلى الله زلفى وبعضهم بقي على الحنيفية، ما كانوا جميعاً ولذا يجب أن يصحح هذا وبودّنا أن إخواننا ممن يعتلون المنابر لا يشتموا ذلك العصر ويتصوروا أنهم بذلك يرفعون قدر الإسلام، لا، الإسلام رفيع القدرة لوحده، بما فيه من مبادئ وقيم. أعطهم حقهم، هؤلاء الناس هم رفعوا شأن هذا الدين، الصحابة رجالٌ من الجاهلية والرسول - ﷺ - قال: " خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" فالعِلّة إذن "الفقه" وما دام ذهب عنهم الفقه ليسوا خياراً لأنهم من غير فقه الدين. ألم يضحك أحد الصحابة لأنه سبق أن أكل ربّه؟! هذا جهل في الدين لكن سلهم في الحكمة، في الشجاعة، في المروءة، في الكرم، في الغيرة على أعراضهم، أمة في غاية السمو والنُبل هذه الأمة التي كانت في الجزيرة ولذلك اختارها الله سبحانه وتعالى لتحمل آخر رسالة إلى الدنيا جميعاً. في الفتوحات الإسلامية التي بدأت من عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه خارج الجزيرة وامتدت على عهد الخلفاء الراشدين وامتدت إلى عهد الأمويين كل المقاتلين كانوا من هذا العصر. وحتى في الشيشان الآن يقولون أنهم من قبائل عربية وحتى في أقصى بلاد الأفغان وفي روسيا أناس ينتسبون إلى الرسول - ﷺ - نسباً أنهم من أولاد الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه،- هم عربٌ ولا يحسنون كلمة عربية – كما نقول بالعامية "سيّد" أو "الشريف" في شمال إفريقيا.
وقالوا في القديم (ليلة القدر) تسعة أحرف تكررت ثلاث مرات في هذه السورة المجموع ٢٧ حرفاً قالوا لعلّها أرجى ليلة هي ليلة الـ ٢٧ هكذا ذكروا في القديم. وقالوا أيضاً كلمة (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))، قالوا كلمة (هي) هي الكلمة الـ ٢٧ من الثلاثين كلمة عدد كلمات السورة بعدد أيام الشهر فقالوا أيضاً لعلها إشارة إلى أنها تُرجى في هذه الليلة الليلة السابعة والعشرين. لا يثبت في هذا حكم وإنما هي من باب إيجاد مناسبات وتناسب، هذه آراء لا يعتد بها حكم وإنما ملاحظات.
بهذا نعرف موقع السورة في السياق العام لترتيب لسورة في القرآن الكريم وهذا الربط وهذا تفسير بالمفصل في سورة البينة وهذا يدل على أن القرآن يفسر بعضه بعضاً وقسم قالوا القرآن كله كالآية الواحدة يفسر بعضه بعضاً أو كالكلمة الواحدة من حيث شدة الارتباط هكذا قال الرازي هو كالكلمة الواحدة من شدة الارتباط ولا يمكن فصل كلمة عن كلمة ولا سورة عن سورة..
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ - وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ - لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ - تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ - سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ - )
*فكرة عامة عن السورة:
لا شك هو ربنا عالم بالشيء قبل وقوعه وهو الذي كتب كل شيء لكنه هو يقصد العلم الذي يتعلق به الجزاء. ربنا يجازي الشخص على عمله لا على علمه فقط، يعلم ويعمل ويجازيه. هذا العلم الذي يتعلق به الجزاء وهو في القرآن كثير (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ (٢٥) الحديد) ربنا يعلم لكن يريد من ينصره ورسله في واقع الحياة، لمقصود علمه بعد عمل المرء. (إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ (١٤٣) البقرة) هو يعلم قبل ذلك لكن علم يتعلق به الجزاء، تطبيق على ما في علم الله (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (٣١) محمد).
* ختمت الآية بقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) وفي سورة الحج (إن الله لقوي عزيز) ما اللمسة البيانية بين الآيتين؟


الصفحة التالية
Icon