٦_ وهو أوَّلُ مَن أدخل إصلاحاتٍ تعليميّةً وتنظيميّة في الجامع الزيتوني في إطار منظومة تربوية فكرية، صاغها في كتابه: (أليس الصبح بقريب) الذي ألفه في بواكير حياته، والذي دل على عقلية تربوية فذة، وكان شاهداً على الإصلاح التربوي والتعليمي الشرعي المنشود.
فأضاف إلى الدراسة موادَّ جديدةً كالكيمياء والفيزياء والجبر وغيرها، وأكثر من دروس الصرف، ومن دروس أدب اللغة، وشَرَع بنفسه في تدريس ديوان الحماسة، ولعلّه أول من درّس ذلك في الزيتونة.
أخلاق ابن عاشور وشمائله: كان الشيخ × تزينه أخلاق رضية، وتواضع جم، فلم يكن على سعة اطلاعه وغزارة معارفه مغروراً كشأن بعض الأدعياء ممن لم يبلغ شأوه.
كان مترفعاً عن صغائر الأمور، إن نظرت إليه _كما يقول مترجموه_ لم تقل إلا أنه رجل من النبلاء جمع بين النبل في الحسب والنسب، والنبل في العلم والأخلاق حتى قال فيه الشيخ محمد الخضر حسين: =ليس إعجابي بوضاءة أخلاقه وسماحة آدابه بأقل من إعجابي بعبقريته في العلم+(١).
وقد اشتهر × بالصبر، وقوة الاحتمال، وعلو الهمة، والاعتزاز بالنفس، والصمود أمام الكوارث، والترفع عن الدنايا، تراه في كتاباته عفيف القلم، حلو المحاضرة، طيب المعاشرة مع تلاميذه حتى إنك لا تجد بين كتاباته رداً على أحد ممن وقف ضده موقف الخصم، بل أسبغ على كتاباته طابع العلم الذي يجب أن يُبَلِّغه، لا مظهر الردود التي تضيع أوقات طالب العلم، وتقود إلى الأحقاد والتعصب.
بل إن أشهر ما عُرِف به الشيخُ رحابة صدره مع منتقدي فتاويه، ومخالفيه في الرأي؛ فهو لا يغلظ لهم القول، ولا ينقدهم النقد اللاذع، بل يُلَمِّح باحترام وتقدير ولطف دون أن يتعدى دائرة النطاق العلمي النزيه.

(١) _ تونس وجامع الزيتونة ص٨١، وانظر محمد الطاهر بن عاشور للطباع ص٨١.

وأيَّاماً كان فالقول فيه هو والقول في تفسير التمني بالمعنى المشهور سواء، أي إذا قرأ على الناس ما أنزل إليه؛ ليهتدوا به ألقى الشيطان في أمنيته، أي في قراءته، أي وسوس لهم في نفوسهم ما يناقضه وينافيه بوسوسته للناس التكذيب والإعراض عن التدبر؛ فَشَبَّهَ تسويلَ الشيطان بوسوسته للكافرين عدم امتثال النبي بإلقاء شيء في شيء؛ لِخَلْطه وإفساده.
وعندي في صحة إطلاق لفظ الأُمْنِيَّة على القراءة شك عظيم؛ فإنه وإن كان قد ورد تمنّى بمعنى قرأ في بيت نسب إلى حسان بن ثابت إن صحت رواية البيت عن حسان على اختلاف في مصراعه الأخير:
تمنى كتاب الله أول ليله تمني داود الزبور على مهل
فلا أظن أن القراءة يقال لها أمنية.
ويجوز أن يكون المعنى أن النبي إذا تمنى هَدْي قومه، أو حرص على ذلك فلقي منهم العناد، وتمنى حصول هداهم بكل وسيلة ألقى الشيطان في نفس النبي خاطر اليأس من هداهم عسى أن يقصر النبي من حرصه أو أن يضجره.
وهي خواطر تلوح في النفس، ولكن العصمة تعترضها؛ فلا يلبث ذلك الخاطر أن ينقشع ويرسخ في نفس الرسول ما كُلّف به من الدأب على الدعوة، والحرص على الرشد؛ فيكون معنى الآية على هذا الوجه مُلَوِّحاً إلى قوله _تعالى_: [وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ].
و[ثُمَّ] في قوله: [ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ] للترتيب الرتبي؛ لأن إحكام الآيات وتقريرها أهم من نسخ ما يلقي الشيطان؛ إذ بالإحكام يتضح الهدى، ويزداد ما يلقيه الشيطان نسخاً.
وجملة: [وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] معترضة.


الصفحة التالية
Icon