وما عَرف لسانُه ولا قلمه نابيَ الكلام؛ فإذا احتاج إلى الرد على أحد _ عَلَت ردودَه مسحةٌ من الأدب الجم، واحترام آراء الآخرين، وترك الاستخفاف أو الاستنقاص للمخالفين كيفما كانت شخصياتهم، ومهما كانت آراؤهم.
ولذلك لم يَنْزِل طيلة حياته إلى الإسفاف في القول كما هو الشأن في المناقشات التي ظهرت في عصره، والمعارك الأدبية والعلمية التي كانت يومئذ محط أنظار الناس(١).
يقول فيه صديقه في الطلب الشيخ محمد الخضر حسين متحدثاً عن شيء من أخلاقه: =شب الأستاذ على ذكاء فائق، وألمعية وقادة، فلم يلبث أن ظهر نبوغه بين أهل العلم+(٢).
ويقول فيه: =وللأستاذ فصاحة منطق، وبراعة بيان، ويضيف إلى غزارةِ العلمِ وقوةِ النظرِ صفاءَ الذوقِ، وسعةَ الاطلاعِ في آداب اللغة.
وأذكر أنه كانَ يوماً في ناحية من جامع الزيتونة ومعه أديبان من خيرة أدبائنا، وكنتُ أقرأ درساً في ناحية أخرى من الجامع، فبعث إليَّ بورقة بها هذان البيتان:

تأَلَّقَتِ الآدابُ كالبدر في السَّحَرْ وقد لفظ البحران موجُهما الدرر
فما لي أرى منطيقها الآن غائباً وفي مجمع البحرين لا يُفقد (الخضر)(٣)
(١) _ انظر شيخ الجامع الأعظم ص١٥٠، ومحمد الطاهر بن عاشور للطباع ص٨١.
(٢) _ تونس وجامع الزيتونة ص١٢٥_١٢٦.
(٣) _ انظر شيخ الجامع الأعظم ص٦٣، ومحمد الطاهر بن عاشور ص٨٢.

ومعنى هذه الآية: أن الأنبياء والرسل يرجون اهتداء قومهم ما استطاعوا فيبلغونهم ما ينزل إليهم من الله، ويعظونهم، ويدعونهم بالحجة والمجادلة الحسنة حتى يظنوا أن أمنيتهم قد نجحت، ويقترب القوم من الإيمان، كما حكى الله عن المشركين قولهم: [أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا].
فيأتي الشيطان، فلا يزال يوسوس في نفوس الكفار، فينكصون على أعقابهم، وتلك الوساوس ضروبٌ شتى من تذكيرهم بحب آلهتهم، ومن تخويفهم بسوء عاقبة نبذ دينهم، ونحو ذلك من ضروب الضلالات التي حكيت عنهم في تفاصيل القرآن، فيتمسك أهل الضلالة بدينهم، ويصدون عن دعوة رسلهم، وذلك هو الصبر الذي في قوله: [لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا] وقوله: [وَانطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ].
وكلما أفسد الشيطان دعوة الرسل أمر الله رُسُلَه فعاودوا الإرشاد وكرروه وهو سبب تكرر مواعظ متماثلة في القرآن؛ فبتلك المعاودة ينسخ ما ألقاه الشيطان، وتثبت الآيات السالفة.
فالنسخ: الإزالة، والإحكام: التثبيت، وفي كلتا الجملتين حذف مضاف، أي ينسخ آثار ما يلقي الشيطان، ويحكم آثار آياته. ١٧/٢٩٩_٣٠١
١٩_ وبما تلقيتَ في تفسير هذه الآية من الانتظام البين الواضح المستقل بدلالته والمستغني بنهله عن علالته، والسالم من التكلفات والاحتياج إلى ضميمة القصص _ ترى أن الآية بمعزل عما ألصقه بها الملصقون والضعفاء في علوم السنة، وتلقَّاه منهم فريق من المفسرين، حباً في غرائب النوادر دون تأمل ولا تمحيص من أن الآية نزلت في قصة تتعلق بسورة النجم؛ فلم يكتفوا بما أفسدوا من معنى هذه الآية حتى تجاوزوا بهذا الإلصاق إلى إفساد معاني سورة النجم؛ فذكروا في ذلك روايات عن سعيد بن جبير، وابن شهاب، ومحمد بن كعب القرطبي، وأبي العالية، والضحاك.


الصفحة التالية
Icon