وقد وصف ابن عاشور نفسه بقوله: =ولا آنَسُ برفقة ولا حديثٍ أُنْسي بمسامرة الأساتيذ والإخوان في دقائق العلم ورقائق الأدب، ولا حُبِّبَ إليِّ شيء ما حُبّبت إليّ الخلوة إلى الكتاب والقرطاس متنكّباً كلَّ ما يجري من مشاغل تكاليف الحياة الخاصة، ولا أعباء الأمانات العامة التي حُمِّلتُها فاحتملتُها في القضاء وإدارة التعليم حالت بيني وبين أنسي في دروس تضيء منها بروق البحث الذكي، والفهم الصائب بيني وبين أبنائي الذين ما كانوا إلاَّ قرَّة عين وعدّة فخر، ومنهم اليوم علماء بارزون، أو في مطالعة تحارير أَخْلُصُ فيها نجيّاً إلى الماضي من العلماء والأدباء الذين خلَّفوا لنا آثارهم الجليلة ميادين فسيحة ركضنا فيها الأفهام والأقلام مرامي بعيدة سدَّدنا إليها صائب المهام+.(١)
ووصفه أحدهم فقال: =رأيتُ فيه شيخاً مهيباً يمثّل امتداداً للسلف الصالح في سمته، ودخل في عقده العاشر ولم تَنَلْ منه السنون شيئاً..
قامة سمهرية خفيفة اللحم، وعقلية شابة ثرية بحصيلتها، وقلب حافظ أصاب من علوم القدماء والمحدثين، ولسان لافظ يقدر على الخوض في كلّ شيء من المعارف، وذهن متفتّح يشقّق الحديث روافد مع وقار يزيّنه، وفضل يبيّنه، وأخلاق وشمائل حسنة تهش للأضياف، وترحّب بالوارد، وتعطي في عمق لمن يريد الاغتراف من بحر كثرت مياهه، وقد ازدحمت العلوم فيه+.(٢)

(١) _ محمد الطاهر بن عاشور ص٨٢.
(٢) _ مجلة جوهر الإسلام عدد١، السنة ١٩٦٣م ص٥٦، وانظر شيخ الجامع الأعظم ص٦٣.

وأقربها رواية عن ابن شهاب وابن جبير والضحاك قالوا: إن النبي "جلس في نادٍ من أندية قريش كثيرٍ أهله من مسلمين وكافرين، فقرأ عليهم سورة النجم فلما بلغ قوله: [أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى] ألقى الشيطان بين السامعين عقب ذلك قوله: =تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى+ ففرح المشركون بأن ذكر آلهتهم بخير.
وكان في آخر تلك السورة سجدة من سجود التلاوة؛ فلما سجد في آخر السورة سجد كل من حضر من المسلمين والمشركين، وتسامع الناس بأن قريشاً أسلموا حتى شاع ذلك ببلاد الحبشة؛ فرجع من مهاجرة الحبشة نفر منهم عثمان ابن عفان إلى المدينة، وأن النبي"لم يشعر بأن الشيطان ألقى في القوم؛ فأعلمه جبريل _ عليه السلام _ فاغتم لذلك فنزل قوله _تعالى_: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ] الآية تسلية له.
وهي قصة يجدها السامع ضغثاً على إبالة(١)ولا يلقي إليها النِّحرير باله.
وما رويت إلا بأسانيد واهية، ومنتهاها إلى ذكر قصة، وليس في أحد أسانيدها سماع صحابي لشيء في مجلس النبي"وسندها إلى ابن عباس سند مطعون.
(١) _ هذا مثل معروف عند العرب، ومعناه: بلية على أخرى كانت قبلها.
يقولون: =ضِغْثٌ على إبَّالة+.
ومعنى الإبالة: الحزمة من الحطب، ويروى: إبَالة مخففاً، ويروى: إببالة.
ومعنى الضغث: قبضة من حشيش مختلطةُ الرطب باليابس. (م)


الصفحة التالية
Icon