ووصفه الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة فقال: =كان فريداً مع تقدّم السنّ في حضور واستحضار ما يسأل عنه من مسائل؛ أذكر أنّني طلبتُ منه ذات يوم من شهر أوت (أغسطس _آب ) (١٩٦٣م) بعد أن جلستُ إليه في زيارتي له بعد العصر عن وجه إعراب خفي عليّ، فإذا الإمام _ رحمة الله عليه _ يفيض في بيان ذلك، ويشرح الوجوه المختلفة، فيستشهد بما أوردهُ ابن هشام في (المغني) وفي (التصريح)، وكأنه يقرأ في كتاب.
وكذلك كان شأنه في كلِّ ما يُسأل عنه من قضايا العلم اللغوي أو الشرعي، كان خزانة علم تتنقل يجد لديه كل طالب بغيته، أعانه على حصول ذلك وبلوغ المرتبة العالية العجيبة فيه اشتغاله المتواصل بالمراجعة والتدريس والتحقيق والتأليف، مع صحة ذهن، وجودة طبع، وقوة عارضة، وطلاقة لسان.
والشيخ صبور على المحن، فلم يَشْكُ من أحد؛ رغم الحملات التي أُثيرت ضدّه، ولم أعثر في نقده العلمي على ما يمسُّ الذوق، أو يخدش الكرامة، عفّ اللسان، كريم، مُحِبٌّ لأهل العلم ولطلبته، ولمن كان أهلاً للمحبة.
وكان في مناقشاته العلمية لا يجرح أحداً، ولا يحطّ من قدره، فإذا لاحظ تهافتاً في الفكر لمَّح إلى ذلك تلميحاً.
ولم أجد في خصوماته الفكرية ما يمسّ شخصية أحد قطّ، ورغم الحملات التي شُنَّت ضده في فتوى التجنّس وغيرها لم ينزل عن المستوى الخلقي الذي يتصف به العلماء، بل لم يُشِرْ إلى خصومه، ولم يشكُ منهم قط.
وأما عاداته ومعاملاته فكان الشيخ كثير الإحسان إلى مساعديه من المستكتبين والعملة، ومن عاداته عدم تناول وجبة العشاء، فإذا حضر مأدبة تظاهر بالأكل مجاملةً+.(١)
قال داغر: =امتاز إلى جانب علمه ودأبه ومعرفته الواسعة وتحرره الفكري، بالتواضع، والنفس الخيرّة، والعقل الراجح، والتدبير القويم+.(٢)

(١) _ شيخ الجامع الأعظم ص٦٣_٧٤.
(٢) _ محمد الطاهر بن عاشور ص٨٤.

على أن ابن عباس يوم نزلت سورة النجم كان لا يحضر مجالس النبي"وهي أخبار آحاد تعارض أصول الدين؛ لأنها تخالف أصل عصمة الرسول"لا التباس عليه في تلقي الوحي؛ ويكفي تكذيباً لها قوله _تعالى_: [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى] وفي معرفة المَلَكِ؛ فلو رووها الثقات لوجب رفضها، وتأويلها؛ فكيف وهي ضعيفة واهية، وكيف يروج على ذي مُسْكَةٍ من عقل أن يجتمع في كلام واحد تسفيه المشركين في عبادتهم الأصنام بقوله _تعالى_: [أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى] إلى قوله: [مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ].
فيقع في خلال ذلك مدحها بأنها (الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى)؟
وهل هذا إلا كلام يلعن بعضه بعضاً؟!
وقد اتفق الحاكون أن النبي"قرأ سورة النجم كلها حتى خاتمتها: [فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا].
لأنهم إنما سجدوا حين سجد المسلمون؛ فدل على أنهم سمعوا السورة كلها.
وما بين آية: [أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى] وبين آخر السورة آيات كثيرة في إبطال الأصنام وغيرها من معبودات المشركين، وتزييف كثير لعقائد المشركين؛ فكيف يصح أن المشركين سجدوا من أجل الثناء على آلهتهم؛ فإن لم تكن تلك الأخبار مكذوبة من أصلها فإن تأويلها: أن بعض المشركين وجدوا ذكر اللات والعزى فرصة للدَّخَل لاختلاق كلمات في مدحهن، وهي هذه الكلمات، وروجوها بين الناس؛ تأنيساً لأوليائهم من المشركين، وإلقاءً للريب في قلوب ضعفاء الإيمان. ١٧/٣٠٣_٣٠٥
٢٠_ والخطاب بـ:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ] للمشركين؛ لأنهم المقصود بالرد والزجر وبقرينة قوله: [إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ] على قراءة الجمهور [تَدْعُونَ] بتاء الخطاب.
فالمراد بـ:[النَّاسُ] هنا المشركون على ما هو المصطلح الغالب في القرآن.
ويجوز أن يكون المراد بـ:[النَّاسُ] جميع الناس من مسلمين ومشركين.
وفي افتتاح السورة بـ:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ] وتنهيتها بمثل ذلك شَبَهٌ برد العجز على الصدر.


الصفحة التالية
Icon