ويقول فيه الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة: =هو نمطٌ فريد من الأشياخ لم نعرف مثله بين معاصريه أو طلابه أو من كان في درجتهم من أهل العلم؛ إذ كان انكبابه على الدرس متميّزاً، واشتغاله بالمطالعة غير منقطع، مع عناية دائمة مستمرة بالتدوين والكتابة، وتقديم ما يحتاج إليه الناس من معارف وعلوم، وأذواق وآداب، وملاحظات وتأملات؛ فلا بدع إذا اطّرَدتْ جهودُه، واستمرّ عطاؤه في مختلف مجالات الدرس والثقافة: في حقول المعرفة الشرعية الدينية، وفي الدراسات اللغوية، وفي معالجة أوضاع التعليم في الزيتونة، والعمل على إصلاحها، مع ذبّه عن الإسلام أصوله وآدابه، وتطلعه كل يوم إلى مزيدٍ من المعرفة بكلّ ما يمكن أن يقع تحت يده من كتب فريدة، ومخطوطات ومصنفات في شتّى العلوم والفنون.
وقد وهبه الله متانة علمٍ، وسعة ثقافة، وعمق نظر، وقدرة لا تفتر على التدوين والنشر، وملكات نقدية يتضح أثرها في طريقة الجمع بين الأصول والتعريفات، وما يلحق بها من ابتداعات وتصرفات.
وهكذا صدرت مقالاته وتحقيقاته، وبحوثه وتآليفه متدفقة متوالية من غير انقطاع أو ضعف، فَنُشِر ما نُشِرَ، وبقي الكثير منها محفوظاً بخزانة آل عاشور ينتظر من يتولى نشره وطبعه وتحقيقه+.(١)
ومن لطائف ذكائه ما ذكره تلميذه أبو الحسن بن شعبان الأديب الشاعر حيث حكى عن نفسه أنه كان يحضر دروس العلامة الإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في (الموطأ) وهو إذ ذاك شيخ الزيتونة، وشيخ الإسلام المالكي حوالي عام(١٩٣٣م) وفي ذات مرة ناقش الشيخ ابن عاشور في مدلول لفظة لغوية، والشيخ ابن عاشور متمكِّن في مادة اللغة، متثبت في نقله، مع سمو ذوق وقدرة على الترجيح بين الأقوال، في أسلوب علمي وحُسن عرض، ولما طالت المناقشة أراد المترجم أن يفحم الشيخ ابن عاشور؛ فاخترع لوقته شاهداً شعرياً على صحّة زعمه، فأجابه الشيخ ابن عاشور بديهةً ومن الوزن والرويّ نفسه:

(١) _ محمد الطاهر بن عاشور ص٨٤_٨٥.

ومما يزيده حسناً أن يكون العجز جامعاً لما في الصدر وما بعده، حتى يكون كالنتيجة للاستدلال، والخلاصة للخطبة، والحوصلة للدرس. ١٧/٣٣٧_٣٣٨
٢١_ وفسر صاحب الكشاف المثل هنا بالصفة الغريبة؛ تشبيهاً لها ببعض الأمثال السائرة، وهو تفسير بما لا نظير له ولا استعمال يعضده؛ اقتصاداً منه في الغوص عن المعنى لا ضعفاً عن استخراج حقيقة المثل فيها، وهو جذيعها(١) المحكك.
وعذيقها المرجب، ولكن أحسبه صادف منه وقت سرعة في التفسير أو شغلا بأمر خطير، وكم ترك الأول للأخير. ١٧/٣٤٠
١_ ويقال (سورة المؤمنون).
فالأول: على اعتبار إضافة السورة إلى المؤمنين؛ لافتتاحها بالإخبار عنهم بأنهم أفلحوا.
ووردت تسميتها بمثل هذا فيما رواه النسائي: =عن عبدالله بن السائب قال: حضرت رسول الله يوم الفتح، فصلى في قِبل الكعبة، فخلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فافتتح سورة المؤمنين، فلما جاء ذكر موسى أو عيسى أخذته سَعْلة فركع+.
والثاني: على حكاية لفظ [الْمُؤْمِنُونَ] الواقع أولها في قوله _تعالى_: [قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ] فجعل ذلك اللفظ تعريفاً للسورة.
وقد وردت تسمية هذه السورة (سورة المؤمنين) في السُّنة، روى أبو داود: عن عبد الله بن السائب قال: =صلى بنا رسول الله الصبح بمكة، فاستفتح سورة المؤمنين حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون، أو ذكر موسى وعيسى أخذت النبي سَعْلة، فحذف، فركع+.
ومما جرى على الألسنة أن يسموها سورة (قد أفلح).
(١) _ هكذا في الأصل، والذي في لسان العرب ١/٤١٢، و١١/١٠٦_١٠٧: =أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب+.
وهذه الكلمة قالها الحباب بن المنذر، ومعناها: أنني قد جربتني الأمور، ولي رأي وعلم يشتفى بهما. (م)


الصفحة التالية
Icon