ولقد تقلبت أحوال العرب في القراءة والكتابة تقلبات متنوعة في العصور المختلفة، فكانوا بادئ الأمر أهل كتابة؛ لأنهم نزحوا إلى البلاد العربية من العراقِ بعد تبلبل الألسن، والعراقُ مَهْدُ القراءة والكتابة، وقد أثبت التاريخ أن ضخم ابن إرم أول من علم العرب الكتابة، ووضع حروف المعجم التسعة والعشرين، ثم إن العرب لما بادوا أي سكنوا البادية تناست القبائل البادية بطول الزمان القراءة والكتابة، وشغلهم حالهم عن تلقي مبادئ العلوم؛ فبقيت الكتابة في الحواضر كحواضر اليمن والحجاز، ثم لما تفرقوا بعد سيل العرم نقلوا الكتابة إلى المواطن التي نزلوها؛ فكانت طيء بنجد يعرفون القراءة والكتابة، وهم الفرقة الوحيدة من القحطانيين ببلاد نجد، ولذلك يقول أهل الحجاز ونجد: إن الذين وضعوا الكتابة ثلاثة نفر من بني بولان من طيء، يريدون من الوضع أنهم علموها للعدنانيين بنجد، وكان أهل الحيرة يعلمون الكتابة؛ فالعرب بالحجاز تزعم أن الخط تعلموه عن أهل الأنبار والحيرة، وقصة المتلمس في كتب الأدب تذكرنا بذلك؛ إذ كان الذي قرأ له الصحيفة غلام من أغيلمة الحيرة.
ولقد كان الأوس والخزرج مع أنهم من نازحة القحطانيين قد تناسوا الكتابة؛ إذ كانوا أهل زرع وفروسية وحروب؛ فقد ورد في السير أنه لم يكن أحد من الأنصار يحسن الكتابة بالمدينة، وكان في أسرى المشركين يوم بدر من يحسن ذلك؛ فكان من لا مال له من الأسرى يفتدي بأن يُعَلِّم عشرة من غلمان أهل المدينة الكتابة؛ فتعلم زيد بن ثابت في جماعة، وكانت الشفاء بنت عبد الله القرشية تحسن الكتابة وهي علمتها لحفصة أم المؤمنين.
ويوجد في أساطير العرب ما يقتضي أن أهل الحجاز تعلموا الكتابة من أهل مدين في جوارهم؛ فقد ذكروا قصة وهي أن المحض بن جندل من أهل مدين، وكان ملكاً كان له ستة أبناء وهم: (أبجد، وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت).
وهم قتلوا الطائى بالحجر عنوةً | أبا جابر فاستنكحوا أم جابر |
١٢_[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ]
لما بين الله في الآياتِ السابقةِ آدابَ النبي"مع أزواجه قفَّاه في هذه الآية بآداب الأمة معهن، و صدر بالإشارة إلى قصة هي سبب نزول هذه الآية، وهي ما في صحيح البخاري و غيره عن أنس بن مالك قال: لما تزوج رسول الله"زينب ابنة جحش صنع طعاماً بخبز ولحم، ودعا القوم، فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام؛ فلم يقوموا؛ فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي ليدخل فإذا القوم جلوس، فجعل النبي"يخرج ثم يرجع، فانطلق إلى حجرة عائشة، فَتَقَرَّى حِجَرَ نسائه كلِّهن يسلم عليهن، ويسلمن عليه، ويدعون له، ثم إنهم قاموا، فانطلقت، فجئت، فأخبرت النبي"أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله: [يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لاَ تَدْخُلُوْا بُيُوْتَ النَّبِيِّ] إلى قوله: [مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ].
وفي حديث آخر في الصحيح عن أنس _أيضاً_ أن عمر بن الخطاب ÷ قال له: =يا رسول الله يدخل عليك البر و الفاجر، فلو أمرت أمهاتِ المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب+.
وليس بين الخبرين تعارضٌ؛ لجواز أن يكون قول عمر كان قبل البناء بزينب بقليل، ثم عقبته قصة وليمة زينب، فنزلت الآية بإثرها.