فجعل أبناءه ملوكاً على بلاد مدين وما حولها، فجعل أبجد بمكة، وجعل هَوَّزاً وحَطِّياً بالطائف ونجد، وجعل الثلاثة الباقين بمدين، وأن كَلِمَناً كان في زمن شعيب، وهو من الذين أخذهم عذاب يوم الظلة(١) قالوا: فكانت حروف الهجاء أسماء هؤلاء الملوك، ثم ألحقوا بها ثخذ، وضغظ.
فهذا يقتضي أن القصة مصنوعة لتلقين الأطفال حروف المعجم بطريقة سهلة تناسب عقولهم، وتقتضي أن حروف ثخذ وضغظ لم تكن في معجم أهل مدين، فألحقها أهل الحجاز، وحقاً إنها من الحروف غير الكثيرة الاستعمال، ولا الموجودة في كل اللغات إلا أن هذا القول يبعده عدم وجود جميع الحروف في فواتح السور، بل الموجود نصفها _ كما سيأتي بيانه من كلام الكشاف _.
القول السادس عشر: أنها حروف قصد منها تنبيه السامع مثل النداء المقصود به التنبيه في قولك: يا فتى؛ لإيقاظ ذهن السامع، قاله: ثعلب، والأخفش، وأبو عبيدة.
قال ابن عطية: =كما يقول في إنشاد أشهر القصائد لا وبل لا+.
قال الفخر في تفسير سورة العنكبوت: =إن الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة، أو مشغول البال يقدم على الكلام المقصود شيئاً؛ ليلفت المخاطب إليه بسبب ذلك المقدم ثم يشرع في المقصود، فقد يكون ذلك المقدم كلاماً مثل النداء، وحروف الاستفتاح، وقد يكون المقدم صوتاً كمن يصفق؛ لِيُقْبِلَ عليه السامع؛ فاختار الحكيم للتنبيه حروفاً من حروف التهجي؛ لتكون دلالتها على قصد التنبيه متعينة؛ إذ ليس لها مفهوم، فتمحضت للتنبيه على غرض مهم+.

(١) _ الظلة: السحابة وقد أصابتهم صواعق فذكروا أن حارثة ابنة كلمن قالت ترثي أباها:
كلمن هدم ركني... هلكه وسط المحلة
سيد القوم أتاه الـ... ـحتف ناراً وسط ظله
كونت ناراً وأضحت... دار قومي مضمحله
ومسحة التوليد ظاهرة في هاته الأبيات.

وابتدئ شرعُ الحجاب بالنهي عن دخول بيوت النبي"إلا لطعام دعاهم إليه؛ لأن النبي _عليه الصلاة و السلام_ له مجلس يجلس في المسجد؛ فمن كان له مهم عنده يأتيه هنالك.
وليس ذكر الدعوة إلى طعام تقييداً لإباحة دخول بيوت النبي"لا يدخلها إلا المدعو إلى طعام، و لكنه مثالٌ للدعوة، و تخصيصٌ بالذكر كما جرى في القضية التي هي سبب النزول، فيلحق به كل دعوة تكون من النبي"وكل إذن منه بالدخول إلى بيته لغير قصد أن يطعم معه كما كان يقع ذلك كثيراً.
ومن ذلك قصة أبي هريرة حين استقرأ من عمر آية من القرآن وهو يطمع أن يدعوه عمر إلى الغداء، ففتح عليه الآية، فإذا رسول الله قائم على رأس أبي هريرة وقد عرف ما به، فانطلق به إلى بيته، و أمر له بعُسّ من لبن ثم ثانٍ، ثم ثالث، وإنما ذكر الطعام، إدماجاً؛ لتبيين آدابه، ولذلك ابتدئ بقوله: [غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ] مع أنه لم يقع مثله في قصة سبب النزول. ٢٢/٨١_٨٢
١٣_ قال حماد بن زيد و إسماعيل بن أبي حكيم: هذه الآية أدبٌ أدَّبَ الله به الثقلاء.
وقال ابن أبي عائشة: حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم.
ومعنى الثقل فيه هو إدخال أَحَدٍ القلقَ والغمَّ على غيره من جراء عمل لفائدة العامل، أو لعدم الشعور بما يلحق غيره من الحرج من جراء ذلك العمل.
وهو من مساوي الخلق، لأنه إن كان من عمد كان ضراً بالناس، وهو منهي عنه؛ لأنه من الأذى وهو ذريعة للتباغض عند نفاذ صبر المضرور؛ فإن النفوس متفاوتة في مقدار تحمل الأذى، ولأن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ فعليه إذا أحس بأن قوله أو فعله يدخل الغم على غيره أن يكف عن ذلك ولو كان يجتني منه منفعة لنفسه؛ إذ لا يضر بأحد؛ لينتفع غيره إلا أن يكون لمن يأتي بالعمل حق على الآخر؛ فإن له طلبه مع أنه مأمور بحسن التقاضي، وإن كان إدخاله الغم على غيره عن غباوة وقلة تفطن له فإنه مذموم في ذاته، وهو يصل إلى حد يكون الشعور به بديهياً.


الصفحة التالية
Icon