١٤_ وقوله: [وَمِنْ النَّاسِ] خبر مقدم لا محالة، وقد يتراءى أن الإخبار بمثله قليل الجدوى؛ لأنه إذا كان المبتدأ دالاً على ذات مثله، أو معنى لا يكون إلا في الناس كان الإخبار عن المبتدأ بأنه من الناس، أو في الناس غير مجد بخلاف قولك: الخضر من الناس، أي لا من الملائكة؛ فإن الفائدة ظاهرة، فوجه الإخبار بقولهم من الناس في نحو الآية، ونحو قول بعض أعزة الأصحاب(١) في تهنئة لي بخطة القضاء:
في الناس من ألقى قلادتها إلى | خلف فحرم ما ابتغى وأباحا |
١٥_ قلت: وكان الشان أن إجراء الأحكام الإسلامية عليه في الدنيا، يقتضي أنه غير خالد؛ إذ لا يعقل أن تجري عليه أحكام المسلمين، وتنتفي عنه الثمرة التي لأجلها فارق الكفر؛ إذ المسلم إنما أسلم؛ فراراً من الخلود في النار، فكيف يكون ارتكاب بعض المعاصي موجباً لانتقاض فائدة الإسلام؟
وإذا كان أحد لا يَسْلَمُ مِنْ أن يقارف معصية، وكانت التوبة الصادقة قد تتأخر، وقد لا تحصل فيلزمهم(٢) ويلزم الخوارج أن يعدوا جمهور المسلمين كفاراً.
وبئس منكراً من القول، على أن هذا مما يجرئ العصاة على نقض عرى الدين؛ إذ ينسل عنه المسلمون؛ لانعدام الفائدة التي أسلموا لأجلها، بحكم:
أنا الغريق فما خوفي من البلل(٣)
(١) _ يعني به صديقه العلامة الشيخ محمد الخضر حسين الذي بعث إليه بقصيدة عنوانها =تهنئة بالقضاء+ عند ولايته القضاء بتونس، وهي من ثلاثة عشر بيتاً، ومطلع القصيدة يقول:
ومنها:
(٢) _ يعني المعتزلة. (م)
(٣) _ هذا شطر بيت للمتنبي، وصدره:
والهجر أَقْتَلُ لي مما أراقبه.................................... (م)
بسط الهناء على القلوب جناحاً | فأعاد مسودَّ الحياة صباحا |
يا طاهر الهمم احتمت بك خطة | تبغي هدىً ومروءةً وسماحا |
(٣) _ هذا شطر بيت للمتنبي، وصدره:
والهجر أَقْتَلُ لي مما أراقبه.................................... (م)
فإن المعلوم هو صيغته التي في التشهد =السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته+ وكان ابن عمر يقول فيه بعد وفاة النبي": =السلام على النبي ورحمة الله وبركاته+.
والجمهور أبقوا لفظه على اللفظ الذي كان في حياة النبي _عليه الصلاة والسلام_ رعياً لما ورد عن النبي _عليه الصلاة والسلام_ أنه حي يبلغه تسليم أمته عليه.
ومن أجل هذا المعنى أبقيت له صيغة التسليم على الأحياء وهي الصيغة التي يتقدم فيها لفظ التسليم على المتعلق به؛ لأن التسليم على الأموات يكون بتقديم المجرور على لفظ السلام.
وقد قال رسول الله للذي سلم فقال: عليك السلام يا رسول الله فقال له: =إن عليك السلام تحية الموتى، فقل: السلام عليك+.
والتسليم مشهور في أنه التحية بالسلام، والسلام فيه بمعنى الأمان والسلامة، وجُعِل تحية في الأولين عند اللقاء مبادأة بالتأمين من الاعتداء والثار ونحو ذلك؛ إذ كانوا إذ اتقوا أحداً توجسوا خيفة أن يكون مضمراً شراً لملاقيه، فكلاهما يدفع ذلك الخوف بالإخبار بأنه مُلْقٍ على ملاقيه سلامة وأمناً، ثم شاع ذلك حتى صار هذا اللفظ دالاً على الكرامة والتلطف، قال النابغة:
أتاركة تدللها قطام... وضنا بالتحية والسلام
٢٢/١٠١_١٠٢
٢٠_ والآية تضمنت الأمر بشيئين: الصلاة على النبي"والتسليم عليه، ولم تقتض جمعهما في كلام واحد وهما مُفَرَّقان في كلمات التشهد؛ فالمسلم مخير بين أن يقرن بين الصلاة والتسليم بأن يقول: =صلى الله على محمد والسلام عليه+ أو أن يقول: =اللهم صلَِّ على محمد والسلام على محمد+ فيأتي في جانب التصلية بصيغة طلب ذلك من الله، وفي جانب التسليم بصيغة إنشاء السلام بمنزلة التحية له، وبين أن يفرد الصلاة، ويفرد التسليم وهو ظاهر الحديث الذي رواه عياض في الشفاء أن النبي"قال: =لقيت جبريل فقال لي: أبشرك أن الله يقول: من سلم عليك سلمت عليه، ومن صلى عليك صليت عليه+.