١٧_ ثم على العالم المتشبع بالاطلاع على مقاصد الشريعة، وتصاريفها أن يفرق بين مقامات خطابها؛ فإن منها مقامَ موعظةٍ، وترغيب، وترهيب، وتبشير، وتحذير، ومنها مقام تعليم، وتحقيق؛ فَيَرَدُّ كل وارد من نصوص الشريعة إلى مورده اللائق، ولا تتجاذبه المتعارضات مجاذبة المُمَاذق، فلا يحتج أحد بما ورد في أثبت أوصاف الموصوف، وأثبت أحد تلك الأوصاف تارة في سياق الثناء عليه؛ إذ هو متصف بها جميعاً؛ فإذا وصف تارة بجميعها لم يكن وصفه تارة أخرى بواحد منها دالاً على مساواة ذلك الواحد لبقيتها؛ فإذا عرضت لنا أخبار شرعية جمعت بين الإيمان والأعمال في سياق التحذير، أو التحريض لم تكن دليلاً على كون حقيقة أحدهما مركبة، ومقومة من مجموعهما، فإنما يحتج محتج بسياق التفرقة والنفي، أو بسياق التعليم والتبيين، فلا ينبغي لمنتسب أن يجازف بقولة سخيفة ناشئة عن قلة تأمل، وإحاطة بموارد الشريعة، وإغضاء عن غرضها، ويَؤُول إلى تكفير جمهور المسلمين، وانتقاض الجامعة الإسلامية، بل إنما ينظر إلى موارد الشريعة نظرة محيطة؛ حتى لا يكون ممن غابت عنه أشياء وحضره شيء، بل يكون حكمه في المسألة كحكم فتاة الحي.
أما مسألة العفو عن العصاة، فهي مسألة تتعلق بغرضنا وليست منه، والأشاعرة قد توسعوا فيها، وغيرهم ضيقها، وأمرها موكول إلى علم الله، إلا أن الذي بلغنا من الشرع، هو اعتبار الوعد والوعيد، وإلا لكان الزواجر كضرب في بارد الحديد، وإذا علمتم أن منشأ الخلاف فيها هو النظر لدليل الوجوب، أو الجواز علمتم خروج الخلاف فيها من الحقيقة إلى المجاز.
ولا عجب أعجب من مرور الأزمان على مثل قولة الخوارج، والإباضية، والمعتزلة، ولا ينبري من حذاق علمائهم من يهذب المراد، أو يؤول قول قدمائه ذلك التأويل المعتاد، وكأني بوميض فطنة نبهائهم أخذ يلوح من خلل الرماد. ١/٢٧٣_٢٧٤
٢٣_ والوجيه: صفة مُشَبَّهة، أي ذو الوجاهة، وهي الجاه، وحسن القبول عند الناس، يُقال: وجُه الرجل، بضم الجيم، وجاهة فهو وجيه.
وهذا الفعل مشتق من الاسم الجامد وهو الوجه الذي للإنسان، فمعنى كونه وجيهاً عند الله أنه مرضي عنه، مقبول، مغفور له، مستجاب الدعوة. ٢٢/١٢١
٢٤_ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُّطِعِ اللهَ وَرسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً(٧١)].
بعد أن نهى الله المسلمين عما يؤذي النبي"وربأ بهم عن أن يكونوا مثل الذين آذوا رسولهم _ وجَّه إليهم بعد ذلك نداءً بأن يتَّسموا بالتقوى، وسداد القول؛ لأن فائدة النهي عن المناكر التلبسُ بالمحامد، والتقوى جماع الخير في العمل والقول، والقول السديد مَبَثُّ الفضائل.
وابتداء الكلام بنداء الذين آمنوا للاهتمام به، واستجلاب الإصغاء إليه؛ ونداؤهم بالذين آمنوا لما فيه من الإيماء إلى أن الإيمان يقتضي ما سيؤمرون به؛ ففيه تعريض بأن الذين يصدر منهم ما يؤذي النبي"قصداً ليسوا من المؤمنين في باطن الأمر ولكنهم منافقون، وتقديم الأمر بالتقوى مشعر بأن ما سيؤمرون به من سديد القول هو من شُعَب التقوى كما هو من شعب الإيمان.
والقول: الكلام الذي يصدر من فم الإنسان يعبر عما في نفسه.
والسديد: الذي يوافق السداد.
والسداد: الصواب، والحق، ومنه تسديد السهم نحو الرمية، أي عدم العدول به عن سمتها بحيث إذا اندفع أصابها؛ فشمل القولُ السديدُ الأقوالَ الواجبةَ، والأقوالَ الصالحةَ النافعةَ مثل ابتداء السلام، وقول المؤمن للمؤمن الذي يحبه: إني أحبك.
والقول يكون باباً عظيماً من أبواب الخير ويكون كذلك من أبواب الشر.
وفي الحديث: =وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم+.
وفي الحديث الآخر: =رحم الله امرأ قال خيراً فغنم أو سكت فسلم+.