وفِرَقُ المسلمين يختلفون في أن ارتكاب بعض الأعمال المنهي عنها يدخل في ماهية الكفر، وفي أن إثبات بعض الصفات لله _تعالى_ أو نفي بعض الصفات عنه _تعالى_ داخل في ماهية الكفر على مذاهب شتى، ومذهب أهل الحق من السلف، والخلف أنه لا يكفر أحد من المسلمين بذنب، أو ذنوب من الكبائر؛ فقد ارتكبت الذنوب الكبائر في زمان رسول الله"والخلفاء فلم يعاملوا المجرمين معاملة المرتدين عن الدين، والقول بتكفير العصاة، خطر على الدين؛ لأنه يؤول إلى انحلال جامعة الإسلام، ويهون على المذنب الانسلاخ من الإسلام منشداً: =أنا الغريق فما خوفي من البلل+. ١/٣٧٤_٣٧٥
٢٩_ والحياة: ضد الموت، وهي في نظر الشرع نفخ الروح في الجسم، وقد تعسر تعريف الحياة، أو تعريف دوامها على الفلاسفة المتقدمين، والمتأخرين تعريفاً حقيقياً بالحد، وأوضح تعاريفها بالرسم أنها قوة ينشأ عنها الحس والحركة، وأنها مشروطة باعتدال المزاج، والأعضاء الرئيسية التي بها تدوم الدورة الدموية.
والمراد بالمزاجِ التركيبُ الخاصُّ المناسبُ مناسبةً تليق بنوع ما من المركبات العنصرية، وذلك التركيب يحصل من تعادل قوى وأجزاء بحسب ما اقتضته حالة الشيء المركب مع انبثاث الروح الحيواني؛ فباعتدال ذلك التركيب يكون النوع معتدلاً، ولكل صنف من ذلك النوع مزاج يخصه بزيادة تركيب، ولكل شخص من الصنف مزاج يخصه، ويتكون ذلك المزاج على النظام الخاص تنبعث الحياة في ذي المزاج في إبان نفخ الروح فيه، وهي المعبر عنها بالروح النفساني.
وقد أشار إلى هذا التكوين حديث الترمذي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله"قال: =إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح+.
والذي بَيَّن هذا المعنى قول حذيفة: =حدثنا رسول الله"حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الأخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها فقال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوَكْت(١) ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المَجْل(٢) كجمر دحرجته على رجلك، فنفط، فتراه منتبراً وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون، ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان+.
أي من أمانة لأن الإيمان من الأمانة؛ لأنه عهد الله.
ومعنى عرض هذه الأمانة على السماوات والأرض والجبال يندرج في معنى تفسير الأمانة بالعقل؛ لأن الأمانة بهذا المعنى من الأخلاق التي يجمعها العقل ويصرّفها، وحينئذ فتخصيصها بالذكر للتنبيه على أهميتها في أخلاق العقل.
والقول في حمل معنى الأمانة على خلافة الله _تعالى_ في الأرض مثل القول في العقل؛ لأن تلك الخلافة ما هَيَّأ الإنسان لها إلا العقل كما أشار إليه قوله: _تعالى_: [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ثم قوله [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا].
فالخلافة في الأرض هي القيام بحفظ عمرانها ووضع الموجودات فيها في مواضعها، واستعمالها فيما استعدت إليه غرائزها.
وبقية الأمور التي فسر بها بعض المفسرون الأمانة يعتبر تفسيرها من قبيل ذكر الأمثلة الجزئية للمعاني الكلية.

(١) _ الوكت: الشية في الشيء من غير لونه.
(٢) _ المجل: نفاخة في الجلد مرتفعة يكون ما تحتها فارغاً مثل ما يقع في أَكُفِّ العَمَلةِ بالفؤوس من ارتفاعات في الجلد.


الصفحة التالية
Icon