فأشار إلى حالات التكوين التي بها صار المزاج مزاجاً مناسباً؛ حتى انبعثت فيه الحياة، ثم بدوام انتظام ذلك المزاج تدوم الحياة، وباختلاله تزول الحياة، وذلك الاختلال هو المعبر عنه بالفساد.
ومن أعظم الاختلال فيه اختلال الروح الحيواني، وهو الدم إذا اختلت دورته فعرض له فساد، وبعروض حالة توقف عمل المزاج، وتعطل آثاره يصير الحي شبيهاً بالميت كحالة المغمى عليه، وحالة العضو المفلوج، فإذا انقطع عمل المزاج فذلك الموت، فالموت عدم، والحياة ملكة، وكلاهما موجود مخلوق قال _تعالى_: [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ] في سورة الملك. ١/٣٧٦_٣٧٧
٣٠_ ومن العجائب أنهم يسلمون أن أفعال الله _تعالى_ لا تخلو عن الثمرة، والحكمة، ويمنعون أن تكون تلك الحكم عللاً وأغراضاً، مع أن ثمرة فعل الفاعل العالم بكل شيء لا تخلو من أن تكون غرضاً؛ لأنها تكون داعياً للفعل ضرورة تحقق علم الفاعل وإرادته، ولم أدر أي حرج نظروا إليه حين منعوا تعليل أفعال الله _تعالى_ وأغراضها.
ويترجح عندي أن هاته المسألة اقتضاها طرد الأصول في المناظرة؛ فإن الأشاعرة لما أنكروا وجوب فعل الصلاح، والأصلح أورد عليهم المعتزلة، أو قدَّروا هم في أنفسهم أن يورد عليهم أن الله _تعالى_ لا يفعل شيئاً إلا لغرض، وحكمة، ولا تكون الأغراض إلا المصالح؛ فالتزموا أن أفعال الله _تعالى_ لا تناط بالأغراض، ولا يعبر عنها بالعلل.
وينبئ عن هذا أنهم لما ذكروا هذه المسألة ذكروا في أدلتهم الإحسان للغير ورعي المصلحة، وهنالك سبب آخر لفرض المسألة، وهو التنزه عن وصف أفعال الله _تعالى_ بما يوهم المنفعة له، أو لغيره وكلاهما باطل؛ لأنه لا ينتفع بأفعاله، ولأن الغير قد لا يكون فِعْلُ الله بالنسبة إليه منفعة.
والمتبادر من هذه المحامل أن يكون المراد بالأمانة حقيقتها المعلومة، وهي الحفاظ على ما عُهد به، ورعْيُه والحذارُ من الإخلال به سهواً أو تقصيراً؛ فيسمى تفريطاً وإضاعة، أو عمداً؛ فيسمى خيانة وخَيْساً؛ لأن هذا المحمل هو المناسب لورود هذه الآية في ختام السورة التي ابتدئت بوصف خيانة المنافقين واليهود و إخلالهم بالعهود وتلونهم مع النبي"قال _تعالى_: [وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ] وقال: [مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ].
وهذا المحمل يتضمن _أيضاً_ أقرب المحامل بعده وهو أن يكون هي العقل؛ لأن قبول الأخلاق فرع عنه. ٢٢/١٢٦_١٢٩
١_ هذا اسمها الذي اشتهرت به في كتب السنة وكتب التفسير وبين القراء ولم أقف على تسميتها في عصر النبوة.
ووجه تسميتها به أنها ذكرت فيها قصة أهل سبأ.
وهي مكية وحُكي اتفاق أهل التفسير عليه.
وعن مقاتل أن آية: [وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ] إلى قوله: [الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ] نزلت بالمدينة. ٢٢/١٣٣
٢_ وهي السورة الثامنة والخمسون في عداد السور، نزلت بعد سورة لقمان وقبل سورة الزمر كما في المروي عن جابر بن زيد واعتمد عليه الجعبري كما في الإتقان، وقد تقدم في سورة الإسراء أن قوله _تعالى_ فيها: [وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعاً] إلى قوله: [أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً] إنهم عنوا قوله _تعالى_ في هذه السورة: [إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنْ السَّمَاءِ].
فاقتضى أن سورة سبأ نزلت قبل سورة الإسراء وهو خلاف ترتيب جابر بن زيد الذي يعد الإسراء متممة الخمسين.


الصفحة التالية
Icon