٣٥_ والآية تقتضي مزية عظمى لهذا النوع في هذا الباب، وفي فضل العلم، ولكنها لا تدل على أفضلية النوع البشرى على الملائكة؛ إذ المزية لا تقتضي الأفضلية _كما بينه الشهاب القرافي في الفرق الحادي والتسعين_ فهذه فضيلة من ناحية واحدة، وإنما يعتمد التفضيل المطلق مجموع الفضائل _كما دل عليه حديث موسى والخضر_. ١/٤١٩
٣٦_ والجَنَّةُ: قطعة من الأرض فيها الأشجار المثمرة، والمياه وهي أحسن مقر للإنسان إذا لفحه حر الشمس، ويأكل من ثمره إذا جاع، ويشرب من المياه التي يشرب منها الشجر، ويروقه منظر ذلك كله؛ فالجنة تجمع ما تطمح إليه طبيعة الإنسان من اللذات.
وتعريف الجنة، تعريف العهد: وهي جنة معهودة لآدم يشاهدها، إذا كان التعريف في الجنة حكاية لما يرادفه فيما خوطب به آدم، أو أريد بها المعهود لنا إذا كانت حكاية قول الله لنا بالمعنى، وذلك جائز في حكاية القول.
وقد اختلف علماء الإسلام في تعيين هذه الجنة، فالذي ذهب إليه جمهور السلف أنها جنة الخلد التي وعد الله المؤمنين، والمصدقين رسله، وجزموا بأنها موجودة في العالم العلوي عالم الغيب _أي في السماء_ وأنها أعدها الله لأهل الخير بعد القيامة، وهذا الذي تقلده أهل السنة. ١/٤٣٠
٣٧_ فإن الأخلاق تُوْرَثُ، وكيف لا وهي مما يعدي بكثرة الملابسة، والمصاحبة وقد قال أبو تمام:
لأعديتني بالحلم إن العلا تُعدي
ووجه المناسبة بين هذا الأثر، وبين منشئه الذي هو الأكل من الشجرة أن الأكل من الشجرة كان مخالفة لأمر الله _تعالى_ ورفضاً له، وسوء الظن بالفائدة منه، دعا لمخالفته الطمع، والحرص على جلب نفع لأنفسهما، وهو الخلود في الجنة، والاستئثار بخيراتها مع سوء الظن بالذي نهاهما عن الأكل منها، وإعلامه لهما بأنهما إن أكلا منها ظلما أنفسهما؛ لقول إبليس لهما: [مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ].
٦_ وبهذا تتبين أن إرادة علماء أهل الكتاب من هذه الآية لا يقتضي أن تكون نازلة بالمدينة حتى يتوهم الذين توهموا أن هذه الآية مستثناة من مكيات السورة كما تقدم.
والأظهر أن المراد من [الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ] من آمنوا بالنبي"من أهل مكة لأنهم أوتوا القرآن، وفيه علم عظيم هم عالموه على تفاضلهم في فهمه والاستنباط منه؛ فقد كان الواحد من أهل مكة يكون فظّاً غليظاً حتى إذا أسلم رق قلبه، وامتلأ صدره بالحكمة، وانشرح لشرائع الإسلام، واهتدى إلى الحق، وإلى الطريق المستقيم.
وأول مثال لهؤلاء، وأشهره، وأفضله هو عمر بن الخطاب، لِلْبَوْنِ البعيد بين حالتيه في الجاهلية والإسلام.
وهذا ما أعرب عنه قول أبي خراش الهذلي خالطاً فيه الجد بالهزل:
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل | سوى العدل شيئاً فاستراح العواذل |
وقد قال النبي"لأحد أصحابه: =لو كنتم في بيوتكم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة بأجنحتها+.
وبفضل ذلك ساسوا الأمة، وافتتحوا الممالك، وأقاموا العدل بين الناس مسلمهم وذمِّيهم، ومُعَاهَدِهم، وملأوا أعين ملوك الأرض مهابة.
وعلى هذا المحمل حمل [الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ] في سورة الحج، ويؤيده قوله _تعالى_: [وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ] في سورة الروم. ٢٢/١٤٥_١٤٦
٧_ ولم تكن التماثيل المجسمة محرمة الاستعمال في الشرائع السابقة وقد حرمها الإسلام؛ لأن الإسلام أمعن في قطع دابر الإشراك لشدة تمكن الإشراك من نفوس العرب وغيرهم.
وكان معظم الأصنام تماثيل فحرم الإسلام اتخاذها لذلك، ولم يكن تحريماً لأجل اشتمالها على مفسدة في ذاتها، ولكن لكونها كانت ذريعة للإشراك.