غير أنه لما كان الغرض المقصود من ذلك هو الامتثالَ كان حقُّ البلاغة أن يفضي البليغ إلى المقصود، ولا يطيل في المقدمة، وإنما يلم بها إلماماً، ويشير إليها إجمالاً؛ تنبيهاً بالمبادرة إلى المقصود على شدة الاهتمام به.
ولم يزل الخطباء، والبلغاء يعدون مثل ذلك من نباهة الخطيب، ويذكرونه في مناقب وزير الأندلس محمد بن الخطيب السلماني؛ إذ قال عند سفارته عن ملك غرناطة إلى ملك المغرب ابن عنان أبياته المشهورة التي ارتجلها عند الدخول عليه طالعها:
خليفةَ الله ساعدَ القدرُ... عُلاك ما لاح في الدجا قمر
ثم قال:
والناس طُرَّا بأرض أندلس... لولاك ما وطَّنوا ولا عمروا
وقد أهمتهم نفوسهم... فوجهوني إليك وانتظروا
فقال له أبو عنان: ما ترجع إليهم إلا بجميع مطالبهم، وأذن له في الجلوس، فسلم عليه.
قال القاضي أبو القاسم الشريف(١) _وكان من جملة الوفد_: =لم نسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا+.
فكان الإجمالُ في المقدمة قضاءً لحقِّ صدارتها بالتقديم، وكان الإفضاءُ إلى المقصود قضاءً لحقه في العناية، والرجوعُ إلى تفصيل النعم قضاءً لِحَقِّهَا من التعداد؛ فإن ذكر النعم تمجيد للمنعم، وتكريم للمنعم عليه، وعظة له ولمن يبلغهم خبر ذلك تبعث على الشكر؛ فللتكرير هنا نكتةُ جمعِ الكلامين بعد تفريقهما، ونكتةُ التعداد لما فيه إجمال معنى النعمة. ١/٤٨٢_٤٨٣
٤٩_ ومعنى العالمين تقدم عند قوله: [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] والمراد به هنا: صنف من المخلوقات.
وفيه _أيضاً_ تجاهل العارف؛ فقد التأم في هذه الجملة ثلاثة محسنات من البديع ونكتة من البيان فاشتملت على أربع خصوصيات. ٢٢/١٩٢
١٥_[وََقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦)].
قفَّوا على صريح كفرهم بالقرآن وغيره من الشرائع بكلام كَنَّوا به عن إبطال حقية الإسلام بدليل سفسطائي؛ فجعلوا كثرة أموالهم وأولادهم حجة على أنهم أهل حظ عند الله _تعالى_ فضمير: [وَقَاْلُوْا] عائد إلى: [الَّذِينَ كَفَرُوا] من قوله: [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ] الخ.
وهذا من تمويه الحقائق بما يحف بها من العوارض؛ فجعلوا ما حف بحالهم في كفرهم من وفرة المال والوالد حجة على أنهم مظنة العناية عند الله، وأن ما هم عليه هو الحق.
وهذا تعريض منهم بعكس حال المسلمين بأن حال ضعف المسلمين، وقلة عددهم، وشظِف عيشهم حجة على أنهم غير محظوظين عند الله، ولم يتفطنوا إلى أن أحوال الدنيا مسببة على أسباب دنيوية لا علاقة لها بأحوال الأولاد.
وهذا المبدأ الوهمي السفسطائي خطير في العقائد الضالة التي كانت لأهل الجاهلية والمنتشرة عند غير المسلمين، ولا يخلو المسلمون من قريب منها في تصرفاتهم في الدين، ومرجعها إلى قياس الغائب على الشاهد، وهو قياس يصادف الصواب تارة، ويخطئه تارات.
ومن أكبر أخطاء المسلمين في هذا الباب خطأ اللجَأ إلى القضاء والقدر في أعذارهم، وخطأ التخلق بالتوكل في تقصيرهم وتكاسلهم. ٢٢/٢١٢_٢١٣
١٦_ وبهذا أخطأ قول أحمد بن الراوندي:
كم عاقلٍ عاقلٍ أعيت مذاهبُه | وجاهلٍ جاهلٍ تلقاه مرزوقا |
هذا الذي ترك الأوهام حائرةً | وصيَّر العالمَ النحريرَ زنديقا |