والعبرة حاصلة على كلا الاعتبارين، والأول أظهر في العبرة؛ لأن فيه اعتبارهم بأنفسهم واعتبار الناس بهم بخلاف الثاني، والثاني أقرب للتاريخ؛ إذ لم ينقل مسخ في كتب تاريخ العبرانيين، والقدرة صالحة للأمرين، والكلُّ معجزة للشريعة، أو لداود(١) ولذلك قال الفخر: ليس قول مجاهد ببعيد جداً، لكنه خلاف الظاهر من الآية، وليس الآية صريحة في المسخ.
ومعنى كونهم قردة أنهم لما لم يتلقوا الشريعة بفهم مقاصدها ومعانيها، وأخذوا بصورة الألفاظ فقد أشبهوا العجماوات في وقوفها عند المحسوسات؛ فلم يتميزوا عن العجماوات إلا بالشكل الإنساني، وهذه القردة تشاركهم في هذا الشبه وهذا معنى قول مجاهد هو مسخ قلوب لا مسخ ذوات.
ثم إن القائلين بوقوع المسخ في الأجسام اتفقوا أو كادوا على أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام، وأنه لا يتناسل.
وروى ذلك ابن مسعود عن النبي"في صحيح مسلم أنه قال: =لم يهلك الله قوماً أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً+.
وهو صريح في الباب، ومن العلماء من جوز تناسل الممسوخ وزعموا أن الفيل والقرد والضب والخنزير من الأمم الممسوخة، وقد كانت العرب تعتقد ذلك في الضب، قال أحد بني سليم _وقد جاء لزوجه بضب فأبت أن تأكله_:
قالت وكنت رجلاً فطينا | هذا لعمر الله إسرائينا |
٥٨_ والجهل ضد العلم وضد الحلم، وقد ورد لهما في كلام العرب، فمن الأول قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا | فنجهل فوق جهل الجاهلينا |
فليس سواء عالم وجهول
وقول النابغة:
وليس جاهل شيء مثل من علما
١/٥٤٨
ومن العجيب إقرارُ العلاَّمةِ التفتزاني كلامَ صاحبِ تلخيص المفتاح، وكيف يكون هذا من المساواة وفيه جملة ذات قصرٍ، والقصر من الإيجاز؛ لأنه قائم مقام جملتين: جملة إثبات للمقصود، وجملة نفيه عما سواه، فالمساواة أن يقال: يحيق المكر السيء بالماكرين دون غيرهم، فما عدل عن ذلك إلى صيغة القصر فقد سُلك طريقه الإيجاز.
وفيه _أيضاً_ حذف مضاف؛ إذ التقدير: ولا يحيق ضر المكر السيء إلا بأهله على أن في قوله: [بِأَهْلِهِ] إيجازاً؛ لأنه عوض عن أن يقال: باللذين تقلدوه.
والوجه أن المساواة لم تقع في القرآن، وإنما مواقعها في محادثات الناس التي لا يعبأ فيها بمراعاة آداب اللغة. ٢٢/٣٣٦
١_ سميت هذه السورة (يس) بمسمى الحرفين الواقعين في أولها في رسم المصحف لأنها انفردت بها فكانا مميزين لها عن بقية السور، فصار منطوقهما علماً عليها، وكذلك ورد اسمها عن النبي".
روى أبو داود عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله": =اقرأوا يس على موتاكم+.
وبهذا الاسم عنون البخاري والترمذي في كتابي التفسير.
ودعاها بعض السلف (قلب القرآن) لوصفها في قول النبي": =إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس+ رواه الترمذي عن أنس، وهي تسمية غير مشهورة.
ورأيت مصحفاً مشرقياً نسخ سنة ١٠٧٨ أحسبه في بلاد العجم عنونها (سورة حبيب النجار) وهو صاحب القصة وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى كما يأتي.
وهذه تسمية غريبة لا نعرف لها سنداً، ولم يخالف ناسخ ذلك المصحف في أسماء السور ما هو معروف إلا في هذه السورة وفي (سورة التين) عنونها (سورة الزيتون).
وهي مكية، وحكى ابن عطية الاتفاق على ذلك قال: =إلا أن فرقةً قالت: قوله _تعالى_: [وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ] نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول"فقال لهم: =دياركم تكتب آثاركم+.
وليس الأمر كذلك وإنما نزلت الآية بمكة ولكنها احتج بها عليهم في المدينة+ا هـ.