٥٩_ وذهب قوم إلى أن إثبات كاد يستلزم نفي الخبر على الوجه الذي قررناه في تقرير المذهب الأول، وأن نفيها يصير إثباتا على خلاف القياس، وقد اشتهر هذا بين أهل الأعراب حتى ألغز فيه أبو العلاء المعري بقوله:

أنحوي هذا العصر ما هي لفظة أتت في لساني جُرْهمٍ وثمود
إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت وإن أثبتت قامت مقام جحود
وقد احتجوا لذلك بقوله _تعالى_ [فذبحوها وما كادوا يفعلون].
وهذا من غرائب الاستعمال الجاري على خلاف الوضع اللغوي.
وقد جرت في هذا نادرة أدبية ذكرها الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز وهي أن عنبسة العنسي الشاعر قال: قدم ذو الرمة الكوفة فوقف على ناقته بالكناسة(١) ينشد قصيدته الحائية التي أولها:
أمنزلتي ميٍّ سلام عليكما على النأي والنائي يود وينصح
حتى بلغ قوله فيها:
إذا غير النأيُ المحبين لم يكد رسيسُ الهوى مِنْ حُبِّ ميةَ يبرح
وكان في الحاضرين ابن شبرمة فناداه ابن شبرمة: يا غيلان أراه قد برح، قال: فشنق ناقته، وجعل يتأخر بها، ويتفكر، ثم قال: =لم أجد+ عوض =لم يكد+.
قال عنبسة: فلما انصرفت حدثت أبي، فقال لي: أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرمة، وأخطأ ذو الرمة حين غير شعره؛ لقول ابن شبرمة، إنما هذا كقول الله _تعالى_: [ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا].
وإنما هو لم يرها، ولم يكد.
وذهب قوم منهم أبو الفتح بن جني وعبد القاهر وابن مالك في التسهيل إلى أن أصل كاد أن يكون نفيها لنفي الفعل بالأولى كما قال الجمهور إلا أنها قد يستعمل نفيها للدلالة على وقوع الفعل بعد بطء وجهد وبعد أن كان بعيداً في الظن أن يقع.
(١) _ الكناسة: بضم الكاف أصله اسم لما يكنس، وسمي بها ساحة بالكوفة مثل المربد بالبصرة.

وفي الصحيح أن النبي"قرأ عليهم: [وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُم] وهو يؤول ما في حديث الترمذي بما يوهم أنها نزلت يومئذ.
وهي السورة الحادية والأربعون في ترتيب النزول في قول جابر بن زيد الذي اعتمده الجعبري، نزلت بعد سورة (قل أوحي) وقبل سورة الفرقان.
وعُدَّت آياتها عند جمهور الأمصار اثنتين وثمانين، وعُدَّت عند الكوفيين ثلاثاً وثمانين.
وورد في فضلها ما رواه الترمذي عن أنس قال النبي": =إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس، ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات+.
قال الترمذي: =هذا حديث غريب، وفيه هارون أبو محمد شيخ مجهول+.
قال أبو بكر بن العربي: =حديثها ضعيف+. ٢٢/٣٤١_٣٤٢
٢_ أغراض هذه السورة: التحديْ بإعجاز القرآن بالحروف المُقَطَّعة، وبالقسم بالقرآن؛ تنويهاً به، وأُدْمِجَ وصفُه بالحكيم؛ إشارةً إلى بلوغه أعلى درجات الإحكام.
والمقصودُ من ذلك تحقيقُ رسالةِ محمدٍ"وتفضيلُ الدين الذي جاء به في كتابٍ منزلٍ من الله؛ لإبلاغ الأمةِ الغايةَ الساميةَ، وهي استقامةُ أمورِها في الدنيا، والفوزُ في الحياةِ الأبدية؛ فلذلك وُصِفَ الدينُ بالصراط المستقيم كما تقدم في سورة الفاتحة.
وأن القرآنَ داعٍ لإنقاذ العرب الذين لم يسبقْ مجيءُ رسولٍ إليهم؛ لأن عَدَمَ سبقِ الإرسالِ إليهم تهيئةً لنفوسهم لقبول الدين؛ إذ ليس فيها شاغلُ سَبْقٍ يَعَزُّ عليهم فراقه، أو يكتفون بما فيه من هدىً.
وَوَصْفُ إعراضِ أكثرِهم عن تلقي الإسلام، وتمثيلُ حالِهم الشنيعة، وحرمانُهم من الانتفاع بهدي الإسلام، وأن الذين اتبعوا دينَ الإسلامِ هم أهل الخشيةُ، وهو الدين الموصوف بالصراط المستقيم.
وَضْربُ المثلِ لفريقي المتبعين والمعرضين من أهل القرى بما سبق من حال أهل القرية الذين شابه تكذيبُهم الرسلِ تكذيبَ قريشٍ.
وكيف كان جزاءُ المعرضين من أهلها في الدنيا، وجزاءُ المتبعين في درجات الآخرة.


الصفحة التالية
Icon