وأشار عبد القاهر إلى أن ذلك استعمال جرى في العرف وهو يريد بذلك أنها مجاز تمثيلي بأن تشبه حالة من فعل الأمر بعد عناء بحالة من بعد عن الفعل، فاستعمل المركب الدال على حالة المشبه به في حالة المشبه، ولعلهم يجعلون نحو قوله فذبحوها قرينة على هذا القصد. ١/٥٥٨
٦٠_ والأمي من لا يعرف القراءة والكتابة، والأظهر أنه منسوب إلى الأمة بمعنى عامة الناس؛ فهو يرادف العامي.
وقيل: منسوب إلى الأم وهي الوالدة أي أنه بقي على الحالة التي كان عليها مدةَ حضانةِ أمِّه إياه، فلم يكتسب علما جديداً.
ولا يعكِّر عليه أنه لو كان كذلك لكان الوجه في النسب أن يقولوا: أمهي بناءً على أن النسب يرد الكلمات إلى أصولها، وقد قالوا في جمع الأم: أمهات فردُّوا المفرد إلى أصله، فدلوا على أن أصل أم أمهة؛ لأن الأسماء إذا نقلت من حالة الاشتقاق إلى جعلها أعلاماً قد يقع فيها تغيير لأصلها. ١/٥٧٣
٦١_ وجعل الإحسان لسائر الناس بالقول؛ لأنه القدر الذي يمكن معاملة جميع الناس به، وذلك أن أصل القول أن يكون عن اعتقاد، فهم إذا قالوا للناس حسناً فقد أضمروا لهم خيراً، وذلك أصل حسن المعاملة مع الخلق، قال النبي": =لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه+.
وقد علمنا الله _تعالى_ ذلك بقوله: [وَلاَ تَجْعَلْ فِيْ قُلُوْبِنَا غِلاًّ لِلَّذِيْنَ آمَنُوْا] على أنه إذا عرض ما يوجب تَكَدُّرَ الخاطر فإن القول الحسن يزيل ما في نفس القائل من الكدر؛ ويري للمقول له الصفاء، فلا يعامله إلا بالصفاء قال المعري:
والخل كالماء يبدي لي ضمائره | مع الصفاء ويخفيها مع الكدر |
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
١/٥٨٣
ثم ضَرَبَ المثلَ بالأعم وهم القرون الذين كذبوا فأُهلكوا، والرثاءُ لحال الناس في إضاعة أسباب الفوز كيف يسرعون إلى تكذيب الرسل.
وتخلَّص إلى الاستدلال على تقريبِ البعثِ، وإثباتِه بالاستقلال تارة، وبالاستطراد أخرى، مُدْمِجاً في آياته الامتنانَ بالنعمة التي تتضمنها تلك الآيات، ورامزاً إلى دلالة تلك الآيات والنعم على تفرد خالقها ومنعمها بالوحدانية؛ إيقاظاً لهم.
ثم تذكيرُهم بأعظمِ حادثةٍ حدثت على المكذبين للرسل والمتمسكين بالأصنام من الذين أرسل إليهم نوح نذيراً؛ فهلك مَنْ كذَّب، ونجا مَنْ آمن.
ثم سيقت دلائلُ التوحيدِ المشوبةُ بالامتنانِ للتذكيرِ بواجبِ الشكر على النعم بالتقوى والإحسان وتَرقُّبِ الجزاء.
والإقلاعُ عن الشرك، والاستهزاءُ بالرسول، واستعجالُ وعيدِ العذاب.
وحُذِّروا من حلوله بغتةً حين يفوت التدارك.
وذُكِّروا بما عَهِدَ اللهُ إليهم مما أودعه في الفطرة من الفطنة.
والاستدلالُ على عداوة الشيطان للإنسان.
واتباعُ دعاةِ الخير.
ثم رَدَّ العَجُزَ على الصدر؛ فعاد إلى تنزيه القرآن عن أن يكون مفترىً صادراً من شاعرٍ بتخيلات الشعراء.
وسلَّى اللهُ رسولَه"أن لا يُحْزِنَه قولُهم وأن له بالله أسوةً؛ إذ خلقهم، فعطلوا قُدْرَتَهُ عن إيجادهم مرة ثانية، ولكنهم راجعون إليه.
فقامت السورة على تقرير أمهات أصول الدين على أبلغ وجهٍ وأَتَمِّهِ من إثباتِ الرسالةِ، ومعجزةِ القرآن، وما يعتبر في صفات الأنبياء، وإثباتِ القدر، وعلمِ الله، والحَشرِ، والتوحيدِ، وشكرِ المنعم.
وهذه أصولُ الطاعةِ بالاعتقاد والعمل، ومنها تتفرع الشريعةُ.
وإثباتُ الجزاء على الخير والشر مع إدماج الأدلةِ من الآفاق والأنفسِ بتَفَنُّنٍ عجيب؛ فكانت هذه السورة جديرة بأن تسمى (قَلْب القرآن) لأن من تقاسيمها تتشعب شرايينُ القرآن كلِّه، وإلى وَتِيْنِها يَنْصَبُّ مجراها.