٧٢_ ثم إن لتأثير هاته الأسباب أو الأصول الثلاثة شروطاً وأحوالاً بعضها في ذات الساحر وبعضها في ذات المسحور، فيلزم في الساحر أن يكون مفرط الذكاء، منقطعاً لتجديد المحاولات السحرية، جسوراً قوي الإرادة، كتوماً للسر، قليلَ الاضطراب للحوادث، سالمَ البنيةِ، مرتاضَ الفكرِ خفيَّ الكيد والحيلة.
ولذلك كان غالبُ السحرةِ رجالاً، ولكن كان الحبشة يجعلون السواحر نساءً، وكذلك كان الغالب في الفرس والعرب قال _تعالى_: [وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ في الْعُقَدِ] فجاء بجمع الإناث، وكانت الجاهلية تقول: إن الغيلان عجائز من الجن ساحرات؛ فلذلك تستطيع التَّشَكُّل بأشكال مختلفة، وكان معلمو السحر يمتحنون صلاحية تلامذتهم لهذا العلم بتعريضهم للمخاوف، وأَمْرِهِمْ بارتكاب المشاق؛ تجربةً لمقدار عزائمهم وطاعتهم.
وأما ما يلزم في المسحور فَخَوَرُ العقلِ، وضَعْفُ العزيمة، ولطافة البنية، وجهالة العقل، ولذلك كان أكثر الناس قابليةً له النساء والصبيان والعامة ومن يَتَعَجَّبُ في كل شيء.
ولذلك كان من أصول السحر إلقاء أقوال كاذبة على المسحور؛ لاختبار مقدار عقله في التصديق بالأشياء الواهية والثقة بالساحر، قال _تعالى_: [وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)] فجعلوا ذلك القول الغريب سحراً. ١/٦٣٤_٦٣٥
٧٣_ فكان السحرُ قرينَ خباثةِ نفسٍ، وفسادِ دينٍ، وشرِّ عملٍ، وإرعابٍ وتهويلٍ على الناس؛ من أجل ذلك ما فتئت الأديان الحقة تحذر الناس منه وتعد الاشتغال به مُرُوقاً عن طاعة الله _تعالى_ لأنه مبني على اعتقاد تأثير الآلهة والجن المنسوبين إلى الآلهة في عقائد الأقدمين. ١/٦٣٦
وما بني عليه أسلوب القرآن من تساوي الفواصل لا يجعلها موازية للقوافي كما يعلمه أهل الصناعة منهم، وكل من زاول مبادئ القافية من المولدين، ولا أحسبهم دعوه شعراً إلا تعجلاً في الإبطال، أو تمويهاً على الإغفال؛ فأشاعوا في العرب أن محمداً"شاعر، وأن كلامه شعر، وينبني عن هذا الظن خبرُ أنيس بن جنادة الغفاري أخي أبي ذر، فقد روى البخاري عن ابن عباس، ومسلم عن عبد الله ابن الصامت، يزيد أحدهما على الآخر قالا: =قال أبو ذر لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء واستمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدم وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاماً ما هو بالشعر، قال أبو ذر: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر، وكان أنيس أحد الشعراء، قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون+.
ثم اقتص الخبر عن إسلام أبي ذر، ويظهر أن ذلك كان في أول البعثة.
ومثله خبر الوليد بن المغيرة الذي رواه البيهقي وابن إسحاق: =أنه جمع قريشاً عند حضور الموسم ليتشاوروا في أمر النبي"فقال لهم: إن وفود العرب تَرِدُ عليكم؛ فأجمعوا فيه رأياً، لا يكذب بعضكم بعضاً، فقالوا: نقول كاهن؟ فقال: والله ما هو بكاهن، ما هو بزمزمته ولا بسجعه، قالوا: نقول مجنون؟ فقال: والله ما هو بمجنون ولا بخنقه ولا وسوسته، فذكر ترددهم في وصفه إلى أن قالوا: نقول شاعر؟ قال: ما هو بشاعر، قد عرفت الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه وما هو بشاعر...+ إلى آخر القصة.
فمعنى: [وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ]: وما أوحينا إليه شعراً علمناه إياه.


الصفحة التالية
Icon