والإيصاء: أمر أو نهي يتعلق بصلاح المخاطب خصوصاً أو عموماً، وفي فوته ضر؛ فالوصية أبلغ من مطلق أمر ونهي؛ فلا تطلق إلا في حيث يخاف الفوات إما بالنسبة للموصي؛ ولذلك كثر الإيصاء عند توقع الموت كما سيأتي عند قوله _تعالى_: [أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي].
وفي حديث العرباض: =وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يارسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا+ الحديث.
وأما بالنسبة إلى الموصَى كالوصية عند السفر في حديث معاذ حين بعثه رسول الله"لليمن كان آخر ما أوصاني رسول الله حين وضعت رجلي في الغرز أن قال: =حسن خلقك للناس+ وجاء رجل إلى النبي"فقال له: أوصني، قال: =لا تغضب+.
فوصية إبراهيم ويعقوب إما عند الموت كما تشعر به الآية الآتية: [إذ حضر يعقوب الموت] وإما في مظان خشية الفوات. ١/٧٢٧_٧٢٨
٧٩_ وهذه الوصية جاءت عند الموت، وهو وقت التعجيل بالحرص على إبلاغ النصيحة في آخر ما يبقى من كلام الموصي؛ فيكونُ له رسوخٌ في نفوس الموصَين.
أخرج أبو داوود والترمذي عن العرباض بن سارية قال: =وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا+ الحديث.
وجاء يعقوب في وصيته بأسلوب الاستفهام؛ لينظر مقدار ثباتهم على الدين حتى يطلع على خالص طويتهم؛ ليلقي إليهم ما سيوصيهم به من التذكير، وجيء في السؤال بما الاستفهامية دون مَنْ؛ لأن (ما) هي الأصل عند قصد العموم؛ لأنه سألهم عما يمكن أن يعبده العابدون.
واقترن ظرف (بعدي) بحرف (مِنْ) لقصد التوكيد؛ فإن (مِنْ) هذه في الأصل ابتدائية؛ فقولك جئت من بعد الزوال يفيد أنك جئت في أول الأزمنة بعد الزوال، ثم عُومِلَتْ معاملةَ حرفِ تأكيد.
ومعلوم أن القرآن جاء معجزاً لبلغاء العرب؛ فكانت تراكيبه ومعانيها بالغين حداً يقصر عنه كل بليغ من بلغائهم على مبلغ ما تتسع له اللغة العربية فصاحة وبلاغة؛ فإذا كانت نهاية مقتضى الحال في مقام من مقامات الكلام تتطلب لإيفاء حق الفصاحة والبلاغة ألفاظاً وتركيباً ونظماً فاتفق أن كان لمجموع حركاتها وسكوناتها ما كان جارياً على ميزان الشعر العربي في أعاريضه وضروبه لم يكن ذلك الكلام معدوداً من الشعر لو وقع مثله في كلام عن غير قصد؛ فوقوعه في كلام البشر قد لا يتفطن إليه قائله، ولو تفطن له لم يعسر تغييره، لأنه ليس غاية ما يقتضيه الحال، اللهم إلا أن يكون قصد به تفنناً في الإتيان بكلام ظاهره نثر، وتفكيكه نظم.
فأما وقوعه في كلام الله _تعالى_ فخارج عن ذلك كله من ثلاثة وجوه: أحدها: أن الله لا يخفى عليه وقوعه في كلام أوحى به إلى رسوله".
الثاني: أنه لا يجوز تبديل ذلك المجموع من الألفاظ بغيره لأن مجموعها هو جميع ما اقتضاه الحال، وبلغ حد الإعجاز.
الثالث: أن الله لا يريد أن يشتمل الكلام الموحى به من عنده على محسن الجمع بين النثر والنظم، لأنه أراد تنزيه كلامه عن شائبة الشعر.
واعلم أن الحكمة في أن لا يكون القرآن من الشعر مع أن المُتَحَدَّيْنَ به بلغاء العرب، وجُلُّهم شعراءُ، وبلاغتهم مُوْدَعَةٌ في أشعارهم _ هي الجمع بين الإعجاز وبين سد باب الشبهة التي تعرض لهم لو جاء القرآن على موازين الشعر، وهي شبه الغلط أو المغالطة بعدِّهم النبي"في زمن الشعراء فيحسب جمهور الناس الذين لا تغوص مدركاتهم على الحقائق أن ما جاء به الرسول ليس بالعجيب، وأن هذا الجائي به ليس بنبي ولكنه شاعر؛ فكان القرآن معجزاً لبلغاء العرب بكونه من نوع كلامهم لا يستطيعون جحوداً لذلك، ولكنه ليس من الصنف المسمى بالشعر، بل هو فائق على شعرهم في محاسنه البلاغية، وليس هو في أسلوب الشعر بالأوزان التي ألفوها، بل هو في أسلوب الكتب السماوية والذكر.


الصفحة التالية
Icon